للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الصَّحِيحَةِ وَالْعُلُومِ الطِّبِّيَّةِ فِي النَّاسِ; لِيَكُونَ لَهُمْ وَازِعٌ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتَّقُونَ بِهِ مَا يَضُرُّهُمْ وَيُقْبِلُونَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُمْ وَتِلْكَ رَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ بِهِمْ، وَلَا يُنَافِي كَوْنَ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ; لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَمَثَلُهُمْ فِيهِ كَمَثَلِ الْمَرِيضِ يُخَالِفُ أَوَامِرَ الطَّبِيبِ

وَنَوَاهِيهِ الْخَاصَّةَ، وَيُخَالِفُ الْوَصَايَا الصِّحِّيَّةَ الْعَامَّةَ، فَيَزْدَادُ أَمْرَاضًا وَأَسْقَامًا، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنُ تِلْكَ الْوَصَايَا رَحْمَةً بِالنَّاسِ وَنِعْمَةً عَلَيْهِمْ.

وَأَمَّا الْجَزَاءُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ إِنْشَاءٌ مِنْ مُقْتَضَى الْفَضْلِ أَوِ الْعَدْلِ فَهُوَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْجَزَاءِ الْأَوَّلِ وَتَابِعٌ لَهُ وَهُوَ قِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا) مَا يَزِيدُ اللهُ الْمُحْسِنِينَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ بِفَضْلِهِ عَلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ بِحَسَبِ وَعْدِهِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرَّحْمَةُ أَعَمَّ وَأَوْسَعَ وَأَعْظَمَ كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْجَزَاءِ خَاصًّا بِالْمُحْسِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ، فَهُوَ رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ. نَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا. (وثَانِيهِمَا) الْقَصَاصُ فِي الْحُقُوقِ وَإِنْ قَلَّتَ، وَمَا يَقْتَصُّ بِهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِحَسَبِ عَدْلِهِ. وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، أَعَمَّ وَأَسْبَقَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَدْلِ، كَانَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ الْمُسِيئِينَ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْفُو اللهُ عَنْهُمْ، فَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِسَاءَةِ قَدْ يَنْقُصُ مِنْهُ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَلَكِنْ لَا يُزَادُ فِيهِ شَيْءٌ قَطُّ. وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْإِحْسَانِ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ٦: ١٦٠) (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ١٠: ٢٦) (فأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ٤: ١٧٣) وَبَيَانُ الدِّينِ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْجَزَاءِ رَحْمَةٌ أَيْضًا فَهُوَ كَبَيَانِ الْحُكُومَةِ الْعَادِلَةِ لِلْأُمَّةِ مَا تُؤَاخَذُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الضَّارَّةِ، وَمَا يَدُلُّ الْمُحْسِنِينَ مِنَ الْأَمْنِ وَالْعِزِّ وَالتَّرَقِّي فِي خِدْمَةِ الدَّوْلَةِ، رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي " وَفِي رِوَايَةٍ " إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي " وَإِنَّمَا السَّبْقُ وَالْغَلَبُ فِي أَثَرَيِ الرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَتَعَلُّقُهُمَا لَا فِي الصِّفَاتِ أَنْفُسِهَا، وَسَنَزِيدُ هَذَا الْبَحْثَ بَيَانًا فِي تَفْسِيرِ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (٧: ١٥٦) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى.

أَمَّا تَعَلُّقُ جَمْعِ النَّاسِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِكِتَابَةِ الرَّحْمَةِ مِنْ جِهَةِ نَظْمِ الْكَلَامِ وَإِعْرَابِهِ فَقِيلَ: إِنَّ كِتَابَةَ الرَّحْمَةِ تَأْكِيدٌ لَهَا فِي مَعْنَى الْقَسَمِ، وَجُمْلَةُ " لَيَجْمَعَنَّكُمْ " جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ حَلَّ مَحَلَّهُ مَا فِي مَعْنَاهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا مُقْتَضَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ، وَمَا مَوْقِعُهَا مِنْ مَوْضُوعِ دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ، إِذْ لَوْ لَمْ يَجْمَعْكُمْ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ لَظَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ مِنْكُمْ مَغْبُونِينَ مَحْرُومِينَ،

وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَظْلُومِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>