بَغْتَةً فِي عِدَّةِ آيَاتٍ غَيْرِ هَذِهِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى الْعَامَّةَ، وَهِيَ الَّتِيَ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْفَى عِلْمَهَا عَنْ كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى الرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (٣١: ٣٤) فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَجِيءِ الْمَوْتِ بَغْتَةً، وَلَا عَلَى جَهْلِ كُلِّ أَحَدٍ بِوَقْتِهِ، فَقَدْ يُعْرَفُ بِأَسْبَابِهِ كَالْأَمْرَاضِ وَالْجُرُوحِ وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمَرَضَ وَنَحْوَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ مَهْمَا يَكُنْ شَدِيدًا، فَكَمْ مِنْ مَرِيضٍ جَزَمَ الْأَطِبَّاءُ بِأَنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَّا أَيَّامًا أَوْ سَاعَاتٍ قَدْ شُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ ذَاكَ وَعَاشَ بَعْدَهُ عِدَّةَ أَعْوَامٍ، عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَيْئَسُ مِنَ الْحَيَاةِ مَا دَامَ فِيهِ رَمَقٌ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ - إِنْ مَاتَ فِي مَرَضِهِ -: أَنَّ الْمَوْتَ جَاءَهُ بَغْتَةً، وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ مِنْ مَوْتِ الْفَجْأَةِ، وَمَنْ لَمْ يَجِئْهُ الْمَوْتُ فَجْأَةً جَاءَهُ الْمَرَضُ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْمَوْتُ فَجْأَةً، وَلَاتَ حِينَ اسْتِعْدَادٍ، وَلَا رُجُوعٍ عَنْ شِرْكٍ وَإِلْحَادٍ، بَلْ يَمُوتُ الْمَرْءُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَيَنْدُرُ أَنْ يَظْهَرَ لِأَحَدٍ فِي مَرَضِ مَمَاتِهِ ضَلَالُهُ الَّذِي عَاشَ عَلَيْهِ طُولَ حَيَاتِهِ، وَلَا يَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ عَنِ الْإِنْسَانِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ فَارَقَ هَذِهِ الْحَيَاةَ إِلَى الْعَالَمِ الْآخَرِ إِلَّا عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ مِنْ بَدَنِهِ، حِينَئِذٍ يَتَحَسَّرُ الْمُفَرِّطُونَ، وَيَنْدَمُ الْمُجْرِمُونَ، ثُمَّ تَتَجَدَّدُ الْحَسْرَةُ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ، وَتَتَضَاعَفُ عِنْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ.
(قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) هَذَا جَوَابُ " إِذَا " أَيْ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ مَنِيَّتُهُمْ وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ
مَبْدَأُ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ وَالْمَرْحَلَةُ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْقِيَامَةِ، مُفَاجِئَةً لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا يَنْتَظِرُونَهَا، وَلَا يَحْسِبُونَ حِسَابًا وَلَا يُعِدُّونَ عُدَّةً لِمَجِيئِهَا، قَالُوا: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى تَفْرِيطِنَا! .
هَذَا أَوَانُكِ فَاحْضُرِي وَبَرِّحِي ... بِالْأَنْفُسِ مَا شِئْتِ أَنْ تُبَرِّحِي
وَالْحَسْرَةُ - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ - الْغَمُّ عَلَى مَا فَاتَ وَالنَّدَمُ عَلَيْهِ، كَأَنَّ الْمُتَحَسِّرَ قَدِ انْحَسَرَ (أَيْ زَالَ وَانْكَشَفَ) عَنْهُ الْجَهْلُ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى مَا ارْتَكَبَهُ، أَوِ انْحَسَرَتْ عَنْهُ قُوَاهُ مِنْ فَرْطِ الْغَمِّ، أَوْ أَدْرَكَهُ إِعْيَاءٌ عَنْ تَدَارُكِ مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَنِدَاءُ الْحَسْرَةِ فَسَّرَهُ سِيبَوَيْهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ مَعْنَى حَرْفِ النِّدَاءِ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِينَ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ تَنْبِيهُ الْمُتَكَلِّمِ لِنَفْسِهِ، وَتَذْكِيرُهَا بِسَبَبِ مَا حَلَّ بِهِ. وَالتَّفْرِيطُ التَّقْصِيرُ مِمَّنْ قَدَرَ عَلَى الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ. وَهُوَ مِنَ الْفَرْطِ بِمَعْنَى السَّبْقِ وَمِنْهُ الْفَارِطُ وَالْفَرَطُ: الَّذِي يَسْبِقُ الْمُسَافِرِينَ لِإِعْدَادِ الْمَاءِ لَهُمْ. وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلسَّلْبِ وَالْإِزَالَةِ كَجَلَّدْتُ الْبَعِيرَ إِذَا سَلَخْتَ جِلْدَهُ وَأَزَلْتَهُ عَنْهُ. فَيَكُونُ مَعْنَى التَّفْرِيطِ الْحَقِيقِيِّ عَدَمَ الِاسْتِعْدَادِ لِمَا يَنْفَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَتَقْدِيمِ الْفَرْطِ، أَيْ يَا حَسْرَتَنَا وَغَمَّنَا وَنَدَمَنَا عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَفْرِيطِنَا فِيهَا، أَيْ فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا الَّتِي كُنَّا نَزْعُمُ أَنْ لَا حَيَاةَ لَنَا بَعْدَهَا، أَوْ فِي السَّاعَةِ أَوْ مَا هِيَ مِفْتَاحٌ لَهُ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهِيَ تَشْمَلُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَقَدْ جَعَلَهُمَا بَعْضُهُمْ مَرْجِعَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ، أَيْ عَلَى تَفْرِيطِنَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute