للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِمُلَاعَبَةِ النِّسَاءِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَخْذُ الزِّينَةِ لَهُنَّ وَلِغَيْرِهِنَّ. وَمِنْ أَجْلِ الزِّينَةِ نَشَأَتْ مُبَاهَاةُ الْأَكْفَاءِ، وَمُفَاخِرَةُ الْأَشْكَالِ وَالنُّظَرَاءِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الْمُكَاثَرَةُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَتَرَتَّبَتِ الْحَيَاةُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُ حَالِ اللَّعِبِ عَلَى اللهْوِ. اهـ. ثُمَّ قَالَ فِي آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ: إِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ. إِلَخْ ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ:

" بَلِ الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِ قِصَرِ مُدَّةَ الدُّنْيَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُدَّةِ الْأُخْرَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا أَمَدُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَّا كَأَمَدِ أَزْمِنَةِ اللهْوِ وَاللَّعِبِ، وَهِيَ أَزْمِنَةٌ تُسْتَقْصَرُ لِشُغْلِ النَّفْسِ بِحَلَاوَةِ مَا يُسْتَعْجَلُ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

شُهُورٌ يَنْقَضِينَ وَمَا شَعَرْنَا ... بِأَنْصَافٍ لَهُنَّ وَلَا سِرَارِ.

وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُ:

وَلَيْلَةٍ إِحْدَى اللَّيَالِي الْغُرِّ ... لَمْ تَكُ غَيْرَ شَفَقٍ وَفَجْرِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْتُ قَبْلُ: مَا ذَكَرَهُ اللهُ بَعْدُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) (٢٩: ٦٤) أَيْ إِنَّ حَيَاتَهَا تَبْقَى أَبَدًا، وَلَا تُعْرَفُ أَبَدًا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللهْوَ هُنَا عَلَى اللَّعِبِ لِأَنَّ الْأَزْمِنَةَ الَّتِي يُقَصِّرُهَا اللهْوُ أَكْثَرُ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي يُقَصِّرُهَا اللَّعِبُ ; لِأَنَّ التَّشَاغُلَ بِهِ أَكْثَرُ. فَلَمَّا كَانَتْ مُعْظَمَ مَا يَسْتَقْصِرُ وَجَبَ تَقْدِيمُ مَا يَكْثُرُ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ آخَذُ بِالشَّبَهِ، وَأَبْلَغُ فِي وَصْفِ الْمُشَبَّهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ النَّاسَ أَزْمِنَتُهُمُ الْمَشْغُولَةُ بِاللهْوِ أَكْثَرُ مِنْ أَزْمِنَتِهِمُ الْمَشْغُولَةِ بِاللَّعِبِ، وَأَنَّ طِيبَهَا لَهُمْ يُخَيِّلُ قِصَرَهَا إِلَيْهِمْ، وَيَتَفَاوَتُ طِيبُهَا عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَى مَحْبُوبِهَا، فَمُعْظَمُ مَا تَرَى الزَّمَانَ الطَّوِيلَ قَصِيرًا زَمَانُ اللهْوِ بِالنِّسَاءِ، وَهُوَ الَّذِي نَشَأَتْ مِنْهُ فِتْنَةُ الرِّجَالِ وَهَلَاكُ أَهْلِ الْحُبِّ ". اهـ. وَمَا قُلْنَاهُ أَقْرَبُ مِنَ اللَّفْظِ نَسَبًا، وَأَشَدُّ ارْتِبَاطًا بِالْمَعْنَى وَأَقْوَى سَبَبًا.

هَذَا وَإِنَّنَا قَدْ وَعَدْنَا بِأَنْ نُبَيِّنَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْمُفْضِي إِلَى الشُّرُورِ الْكَثِيرَةِ، فَنَقُولُ:

إِنَّ الْكُفْرَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَاعْتِقَادَ أَنَّهُ لَا حَيَاةَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ يَجْعَلُ هَمَّ الْكَافِرَ مَحْصُورًا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ؛ كَالْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ الشَّرَفَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ فِي اتِّبَاعِ هَوَاهُ وَلَذَّاتِهِ الشَّهْوَانِيَّةِ أَسْفَلَ مِنَ الْبَهَائِمِ كَالْبَقَرِ وَالْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَفِي اتِّبَاعِهِ لِهَوَاهُ فِي لَذَّاتِهِ الْغَضَبِيَّةِ أَضْرَى وَأَشَدَّ أَذًى مِنَ الْوُحُوشِ الضَّارِيَةِ الْمُفْتَرِسَةِ كَالذِّئَابِ وَالنُّمُورِ، وَفِي اتِّبَاعِهِ لِهَوَاهُ وَلَذَّتِهِ النَّفْسِيَّةِ شَرًّا

<<  <  ج: ص:  >  >>