وَالسَّمْعُ وَالسَّمَاعُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى إِدْرَاكِ الصَّوْتِ، وَبِمَعْنَى فَهْمِ مَا يُسْمَعُ مِنَ الْكَلَامِ وَهُوَ ثَمَرَةُ السَّمَاعِ، وَبِمَعْنَى قَبُولِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَالِاعْتِبَارِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الثَّمَرَةِ، فَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْكَامِلَةُ الْعُلْيَا مِنْ مَرَاتِبِ السَّمَاعِ، فَمَنْ سَمِعَ وَلَمْ يَفْهَمْ، كَانَ كَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَمَنْ فَهِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ كَانَ كَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ وَأَبْعَدُ عَنْ قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا لِمَكْرُمَةٍ ... فَكَأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا.
رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا سَمَاحَ يَدٍ ... فَكَأَنَّهُمْ رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا.
ذَلِكَ بِأَنَّ لِلْخَلْقِ وَالرِّزْقِ ثَمَرَاتٍ وَغَايَاتٍ غَيْرِ الْمَكَارِمِ وَسَمَاحِ الْيَدِ، وَأَمَّا سَمَاعُ الْكَلَامِ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ إِلَّا فَهْمَهُ، وَفَهْمُهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ إِلَّا الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا أَطْلَقَ الْقُرْآنُ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ سَمَاعِ الْآيَاتِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ لَفْظَ الصُّمِّ وَلَفْظَ الْمَوْتَى فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ فِيهِمَا مَعًا: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (٢٧: ٨٠) وَالْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
فَمَعْنَى صَدْرِ الْآيَةِ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ - أَوْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ - الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ الدَّاعِي إِلَيْهِ بِآيَاتِهِ سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَدَبُّرٍ، فَيَعْقِلُونَ الْآيَاتِ، وَيُذْعِنُونَ لِمَا عَرَفُوا بِهَا مِنَ الْحَقِّ ; لِسَلَامَةِ فِطْرَتِهِمْ وَاسْتِقْلَالِ عُقُولِهِمْ، دُونَ الَّذِينَ قَالُوا: سَمِعْنَا
وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ كَالْمُقَلِّدِينَ الْجَامِدِينَ، وَدُونَ الَّذِينَ قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْجَاحِدِينَ. فَكُلُّ أُولَئِكَ مِنْ مَوْتَى الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ عَنْ الِانْتِفَاعِ مِنْ مَوْتَى الْجُسُومِ وَالْأَبْدَانِ.
(وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أَيْ وَمَوْتَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ هَذَا السَّمَاعَ يُخْرِجُهُمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ قُبُورِهِمْ وَيُرْسِلُهُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، ثُمَّ تُرْجِعُهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَيْهِ فَيَنَالُونَ مَا اسْتَحَقُّوهُ مِنَ الْجَزَاءِ، فَأَصْلُ الْبَعْثِ فِي اللُّغَةِ: إِثَارَةُ الشَّيْءِ وَتَوْجِيهُهُ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: يُقَالُ: بَعَثْتُ بِالْبَعِيرِ أَيْ: أَثَرْتُهُ مِنْ مَبْرَكِهِ وَسَيَّرْتُهُ إِلَى الْمَرْعَى وَنَحْوِهِ، وَ (يُرْجَعُونَ) مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الرَّجْعِ، وَ " رَجَعَ " جَاءَ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: رَجَعَ فَلَانٌ رُجُوعًا، أَيِ انْصَرَفَ وَرَجَعْتُهُ رَجْعًا، وَمِنْهُ (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) (٢٣: ٩٩، ١٠٠) وَ " أَرْجَعْتُهُ " لُغَةُ هُذَيْلٍ.
فَالظَّاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتَى هُنَا: الْكُفَّارُ الرَّاسِخُونَ فِي الْكُفْرِ، الْمَطْبُوعُ عَلَى قُلُوبِهِمُ، الْمَيْئُوسُ مِنْ سَمَاعِهِمْ سَمَاعَ فَهْمٍ وَاعْتِبَارٍ تَتْبَعُهُ الِاسْتِجَابَةُ لِدَاعِي الْإِيمَانِ، أَيْ: وَالَّذِينَ لَا تُرْجَى اسْتِجَابَتُهُمْ لِأَنَّهُمْ كَالْمَوْتَى لَا يَسْمَعُونَ السَّمَاعَ النَّافِعَ - يُتْرَكُ أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ فَهُوَ يَبْعَثُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، ثُمَّ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُجَازِيهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَضُرُّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ كُفْرُهُمْ، وَلَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكَ هِدَايَتُهُمْ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تُفَوِّضَ إِلَى اللهِ أَمْرَهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ لَفْظَ الْمَوْتَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute