تُشْعِرُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ صِحَّةُ هَذَا الْقِيَاسِ حَتَّى لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ الْبَحْثِ وَسِعَةِ الْعِلْمِ بِالْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ، وَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ هَذَا الْعِلْمِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ (كَالْمَرِّيخِ) فِيهِ مَاءٌ وَنَبَاتٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْحَيَوَانِ، بَلْ فِيهِ أَمَارَاتٌ عَلَى وُجُودِ عَالَمٍ اجْتِمَاعِيٍّ صِنَاعِيٍّ كَالْإِنْسَانِ، مِنْهَا مَا يَرَى عَلَى سَطْحِهِ بِالْمِرْآةِ الْمُقَرِّبَةِ (الْمَرْقَبُ - التِّلِسْكُوبُ) مِنَ الْجَدَاوِلِ الْمُنَظَّمَةِ وَالْخُلْجَانِ، فَالْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا تُرْشِدُنَا بِهَذَا وَبِوَصْفِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ بِأَنَّهَا أُمَمٌ أَمْثَالُنَا إِلَى الْبَحْثِ فِي طَبَائِعِ الْأَحْيَاءِ لِنَزْدَادَ عِلْمًا بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْرَارِهِ فِي خَلْقِهِ، وَنَزْدَادَ بِآيَاتِهِ فِيهَا إِيمَانًا وَحِكْمَةً وَحَضَارَةً وَكَمَالًا، وَنَعْتَبِرَ بِحَالِ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا الَّذِينَ لَمَّ يَسْتَفِيدُوا مِمَّا فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهِ عَلَى الْحَيَوَانِ شَيْئًا فَكَانُوا أَضَلَّ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ الَّتِي لَا تَجْنِي عَلَى نَفْسِهَا مَا يَجْنِيهِ الْكَافِرُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ، فَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) قَالَ: أَصْنَافًا مُصَنَّفَةً تُعْرَفُ بِأَسْمَائِهَا، وَعَنْ قَتَادَةَ: الطَّيْرُ أُمَّةٌ وَالْإِنْسُ أُمَّةٌ وَالْجِنُّ أُمَّةٌ، وَعَنِ السُّدِّيِّ: خَلْقٌ
أَمْثَالَكُمْ، فَالْأَوَّلَانِ عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بِالصِّفَاتِ الْمُشْتَرِكَةِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا بَعْضُ الْأَنْوَاعِ وَالْأَصْنَافِ عَنْ بَعْضٍ، وَهِيَ الَّتِي نُسَمِّيهَا الْمُقَوِّمَاتِ وَالْمُشَخِّصَاتِ، وَالثَّالِثُ: عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي أَصْلِ الْخَلْقِ، أَيْ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً مِثْلَنَا، وَيَتَّبِعُ ذَلِكَ مَا يُلَازِمُهُ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ وَتَدْبِيرِهِ فِينَا وَفِيهَا، وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُمَاثَلَةِ أَنَّهَا تَعْرِفُ اللهَ وَتُوَحِّدُهُ وَتُسَبِّحُهُ وَتَحْمَدُهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَّا، وَتَوَسَّعَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ فِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ، فَقَالُوا: إِنَّهَا عَاقِلَةٌ وَمُكَلَّفَةٌ، وَأَنَّ لَهَا رُسُلًا مِنْهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُمَاثَلَةَ إِحْصَاءُ الْكِتَابِ لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحَيَاتِهَا وَمَوْتِهَا كَالْبَشَرِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا بِحَشْرِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا كَمَا يَحْشُرُنَا، وَحِسَابِهِ لَهَا كَمَا يُحَاسِبُنَا، وَاخْتَارَ الرَّازِيُّ أَنَّهَا بِعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحِمَتِهِ بِهَا وَفَضْلِهِ عَلَيْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي وَجْهِ النَّظَرِ وَمُنَاسَبَةِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا. وَنُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ الْآيَةَ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ آدَمِيٌّ إِلَّا وَفِيهِ شِبْهٌ مِنْ بَعْضِ الْبَهَائِمِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقْدِمُ إِقْدَامَ الْأَسَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوَ الذِّئْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْبَحُ نُبَاحَ الْكَلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَطَوَّسُ (أَيْ يَتَزَيَّنَ) كَفِعْلِ الطَّاوُوسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْبِهُ الْخِنْزِيرَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ الطَّيِّبُ تَرَكَهُ، وَإِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ رَجِيعِهِ وَلَغَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ نَجِدُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ مَنْ لَوْ سَمِعَ خَمْسِينَ حِكْمَةً لَمْ يَحْفَظْ وَاحِدَةً مِنْهَا، فَإِنْ أَخْطَأْتَ مَرَّةً وَاحِدَةً حَفِظَهَا وَلَمْ يَجْلِسْ مَجْلِسًا إِلَّا رَوَاهُ عَنْكَ - ثُمَّ قَالَ - فَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّكَ إِنَّمَا تُعَاشِرُ الْبَهَائِمَ وَالسِّبَاعَ، فَبَالِغْ فِي الْحِذَارِ وَالِاحْتِرَازِ. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ - إِذَا صَحَّ دُخُولُهُ فِي ضِمْنِ الصِّفَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ - لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، وَإِنْ جُعِلَ الْخِطَابُ بِهَا لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً ; لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا لَيْسَ لِتُحَذِّرَهُمْ شَرَّ النَّاسِ بَلْ لِبَيَانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute