بِكَوْنِهِ ثَابِتًا لَا يُسْنَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ هُنَا الْقُرْآنُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ أُمَّ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْكِتَابِ شَامِلٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللهِ تَعَالَى وَمِنْ مَقَادِيرِ خَلْقِهِ.
قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ الزُّخْرُفِ: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤٣: ٤) .
وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: مَا تَرَكْنَا فِي الْكِتَابِ شَيْئًا لَمْ نُثْبِتْهُ فِيهِ تَقْصِيرًا وَإِهْمَالًا، بَلْ أَحْصَيْنَا فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ أَوْ جَعَلْنَاهُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالْكِتَابِ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ أَوِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَالِاسْتِغْرَاقُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ شَيْءٍ) - الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ - الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ مِنْ مَوْضُوعِ الدِّينِ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ الرُّسُلَ وَيُنْزِلُ بِهِ الْكُتُبَ وَهُوَ الْهِدَايَةُ ; لِأَنَّ الْعُمُومَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ، أَيْ مَا تَرَكْنَا فِي الْكِتَابِ شَيْئًا، مَا مِنْ ضُرُوبِ الْهِدَايَةِ الَّتِي تُرْسَلُ الرُّسُلُ لِأَجْلِهَا إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِيهِ، وَهِيَ أُصُولُ الدِّينِ وَقَوَاعِدُهُ وَأَحْكَامُهُ وَحُكْمُهَا، وَالْإِرْشَادُ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فِي الِاسْتِفَادَةِ مِنْ تَسْخِيرِ اللهِ كُلَّ شَيْءٍ لِلْإِنْسَانِ، وَمُرَاعَاةُ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الْكَمَالُ الْمَدَنِيُّ وَالْعَقْلِيُّ، فَالْقُرْآنُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالنَّصِّ أَوِ الْفَحْوَى، وَمِنْهُ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ هُنَا فِي عِلْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَهْدِي إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَا وَجْهَ اشْتِمَالِ الْكِتَابِ عَلَى جَمِيعِ أَمْرِ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٥: ١٠١) مِنْ هَذَا الْجُزْءِ، وَتَفْسِيرِ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٥: ٣) مِنْ تَفْسِيرِ الْجُزْءِ السَّادِسِ، وَتَفْسِيرِ (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٤: ٥٩) مِنْ تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الْخَامِسِ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهَا مَنْ شَاءَ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ حَوَى عُلُومَ الْأَكْوَانِ كُلَّهَا، وَأَنَّ الشَّيْخَ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَقَعَ عَنْ حِمَارِهِ فَرَضَّتْ رِجْلُهُ فَلَمْ يَأْذَنْ لِلنَّاسِ بِحَمْلِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنِ اسْتَخْرَجَ حَادِثَةَ وُقُوعِهِ وَرَضِّ رِجْلِهِ مِنْ " سُورَةِ الْفَاتِحَةِ "، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا عُلَمَاءُ التَّابِعِينَ، وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، وَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ يَرَوْنَ أَنَّ كُلَّ مَا كَتَبَهُ الْمَيِّتُونَ فِي كُتُبِهِمْ حُقٌّ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ، وَلَا يَهْدِي إِلَيْهِ نَقْلٌ، وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ، بَلْ قَالَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ فُرُوعِ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ الضَّرُورِيَّةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَلَا الْفَحْوَى، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ وُجُوبَ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ فَصَارَ دَالًّا عَلَى كُلِّ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ، وَأَثْبَتَ قَوَاعِدَ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَقَوَاعِدَ أُخْرَى، فَصَارَ مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ فُرُوعِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ الدِّينِ عَنْهَا، وَأَنَّ قَبُولَ النَّاسِ لِلْخُرَافَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ هِيَ الَّتِي جَرَّأَتْ مِثْلَ مَسِيحِ الْهِنْدِ أَحْمَدَ الْقَادِيَانِيِّ عَلَى
ذَلِكَ التَّفْسِيرِ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْفَاتِحَةَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُعْجِزَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِهِ هُوَ الْمَسِيحَ الْمُنْتَظَرَ، وَكُلُّهُ لَغْوٌ وَهَذَيَانٌ، وَمِنْ أَغْرَبِهِ زَعْمُهُ أَنَّ اسْمَ الرَّحْمَنِ فِي الْفَاتِحَةِ دَلِيلٌ عَلَى بَعْثَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْمُ الرَّحِيمِ دَلِيلٌ عَلَى بِعْثَتِهِ هُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute