مِنْ بَيَانِ وَظِيفَةِ الرُّسُلِ الْعَامَّةِ بِتَطْبِيقِهَا عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى
آلِهِ - وَإِزَالَةُ أَوْهَامِ النَّاسِ فِيهَا، وَمِنْ بَيَانِ أَمْرِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَوْنِ الْأَمْرِ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَزِيدُ عَقِيدَةَ التَّوْحِيدِ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا وَبَيَانًا وَتَفْصِيلًا، وَذَهَبَ الرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهْ) (٣٧) وَمَا قُلْنَاهُ أَظْهَرُ. وَقَدْ بُدِئَتِ الْآيَةُ الْأَوْلَى بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ - عَلَى مَا عَلِمْنَا مِنْ أُسْلُوبِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي بَيَانِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّبْلِيغُ - فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الَّذِي لَمْ يُبْعَثْ إِلَّا كَمَا بُعِثَ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ مُبَشِّرًا مَنْ أَجَابَ دَعْوَتَهُ بِحُسْنِ الثَّوَابِ وَمُنْذِرًا مَنْ رَدَّهَا سُوءَ الْعِقَابِ، لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمُشَاغِبِينَ لَكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ شُئُونِ الْأُلُوهِيَّةِ وَحَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ، الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْبَشَرَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ - وَإِنْ قَالُوهُ تَعْجِيزًا - يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْبَشَرِ لَا يَكُونُ رَسُولًا إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَقِيقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَيَصِيرَ إِلَهًا قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَعَالِمًا بِكُلِّ مَا يَعْجِزُ عَنْ عِلْمِهِ الْبَشَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ الَّتِي عُهِدَ إِلَيْهِ أَمْرُ تَبْلِيغِهَا، أَوْ يَصِيرَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي مُتَعَلِّقِ قُدْرَتِهِ وَمُتَنَاوَلِ عِلْمِهِ ; لِأَنَّ أَمْرَ الرِّسَالَةِ فِي خَيَالِهِمْ يُنَافِي الْبَشَرِيَّةَ الَّتِي حَقَّرَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ جَهْلُهُمْ وَسُوءُ حَالِهِمْ وَفَسَادُ أَعْمَالِهِمْ - قُلْ لِهَؤُلَاءِ: لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ أَتَصَرَّفُ بِمَا خَزَنَهُ وَحَفِظَهُ فِيهَا مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ وَشُئُونِ الْمَخْلُوقَاتِ، بِمَعْنَى الْمَخْزُونَاتِ، فَالْخَزَائِنُ جَمْعُ خَزِينَةٍ أَوْ خِزَانَةٍ، وَهِيَ مَا يَخْزُنُ فِيهَا الشَّيْءَ مَنْ يُرِيدُ حِفْظَهُ وَمَنْعَ غَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (٦٣: ٧) يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا مَا أَعْطَاهُ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَمَكَّنَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالْمُتَصَرِّفُ بِمَا يُعْطَى مِنَ الْخِزَانَةِ لَا يَكُونُ مُتَصَرِّفًا فِي الْخِزَانَةِ نَفْسِهَا، فَالْمُسْتَخْدَمُونَ عِنْدَ الْمَلِكِ أَوِ الرَّجُلِ الْغَنِيِّ يُعْطَوْنَ أُجُورَهُمْ مِنْ خِزَانَتِهِ، فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا دُونَ الْخِزَانَةِ، وَجَمِيعُ الْأَحْيَاءِ الْعَامِلِينَ يَتَصَرَّفُونَ بِمَا يُعْطِيهِمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ خَزَائِنَ الْمَوْجُودَاتِ، كُلٌّ بِحَسَبِ مَا أُوتِيَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ فِي دَائِرَةِ ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى مَا لَمْ يُؤْتَهُ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ اسْتِعْدَادُهُ، فَالتَّصَرُّفُ الْمُطْلَقُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ - الْمُبَلِّغُ عَنِ
اللهِ تَعَالَى أَمْرَ دِينِهِ - قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِالْأَسْبَابِ، فَضْلًا عَنِ التَّصَرُّفِ الذَّاتِيِّ بِغَيْرِ سَبَبٍ الَّذِي طَلَبَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُ، وَجَعَلُوهُ شَرْطًا لِلْإِيمَانِ لَهُ، كَتَفْجِيرِ الْيَنَابِيعِ وَالْأَنْهَارِ مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ وَإِيجَادِ الْجَنَّاتِ وَالْبَسَاتِينِ فِيهَا، وَإِسْقَاطِ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ كِسَفًا، وَالْإِتْيَانِ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اقْتَرَحُوهُ وَحَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي " سُورَةِ الْإِسْرَاءِ " وَغَيْرِهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute