الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَلَكِنَّا مَعَ هَذَا نَقُولُ: إِنَّ بَعْضَهُ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى كَرَامَةً كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَفْسِيرِنَا لِلْآيَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الرِّسَالَةَ الْإِلَهِيَّةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إِقْدَارِ الرَّسُولِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ لِلنَّاسِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عِلْمِيٌّ تَعْلِيمِيٌّ، فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَبْلِيغِ مَا عَلَّمَهُ اللهُ لِلرَّسُولِ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِهَا تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنْ خَلْقٍ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطِ اللهُ تَعَالَى أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ قُدْرَةً عَلَى هِدَايَةِ أَحَدٍ بِالْفِعْلِ. قَالَ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (٢: ٢٧٢) وَقَالَ لَهُ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (٢٨: ٥٦) وَلَوْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ لَجَعَلَهُ نُوحٌ - نَبِيُّ اللهِ - فِي هِدَايَةِ وَلَدِهِ، وَإِبْرَاهِيمُ - خَلِيلُ اللهِ - فِي هِدَايَةِ أَبِيهِ آزَرَ، وَلَكِنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ أَصْلَ مَوْضُوعِهَا رُؤْيَةُ الْمَلَائِكَةِ، وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي أُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ اتِّبَاعًا لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي رَأَى بِعَيْنَيْهِ وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ وَوَعَى بِقَلْبِهِ، وَقَدْ أَثْبَتَ تَعَالَى عَالَمَ الْغَيْبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالرِّسَالَةِ لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ فِي آخِرِ " سُورَةِ الْجِنِّ ": (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) (٧٢: ٢٦ - ٢٨) فَكَيْفَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَتَنَصَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنِ ادِّعَاءِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ نَفْيِ التَّصَرُّفِ بِقَوْلِهِ فِي أَوَاخِرِ الْأَعْرَافِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧: ١٨٨) .
نَقُولُ: (أَوَّلًا) إِنَّ مَا يُظْهِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الرُّسُلَ هُوَ مِنَ الْغَيْبِ الْإِضَافِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ الِاسْتِعْدَادَ لِعِلْمِهِ.
(ثَانِيًا) إِنَّ إِظْهَارَهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ عَلَى شَيْءٍ خَاصٍّ مِنْ هَذَا الْغَيْبِ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي عُلُومِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، فَإِنَّ الْوَحْيَ ضَرْبٌ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ يَجِدُهُ النَّبِيُّ فِي نَفْسِهِ عِنْدَمَا يُظْهِرُهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَإِذَا حُبِسَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُدْرَةً وَلَا وَسِيلَةً كَسْبِيَّةً إِلَيْهِ كَمَا يَعْلَمُ مِمَّا وَرَدَ فِي فَتَرَاتِ الْوَحْيِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ تَوَجُّهُ قَلْبِ الرَّسُولِ إِلَى اللهِ تَعَالَى عِنْدَ بَعْضِ الْحَوَادِثِ مُقَدِّمَةً لِنُزُولِ الْوَحْيِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي اسْتَشْرَفَ لَهُ وَتَوَجَّهَ إِلَى اللهِ تَعَالَى لِيُبَيِّنَهُ لَهُ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلْنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) (٢: ١٤٤) إِلَخْ. وَكَذَلِكَ رُؤْيَةُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَلَكِ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ، هِيَ خُصُوصِيَّةٌ لَا يُعَدُّ مِثْلُهَا مِنْ عُلُومِ الرُّسُلِ الْكَسْبِيَّةِ. وَأَمَّا رُؤْيَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute