للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(الْحُكْمُ الثَّانِي) : أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ قَالُوا: ثَبَتَ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَعْمَلُ إِلَّا بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاتَّبِعُوهُ) (٦: ١٥٣ - ١٥٥) وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِغَيْرِ الْوَحْيِ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلِ الْأَعْمَى، وَالْعَمَلَ بِالْوَحْيِ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلِ الْبَصِيرِ، ثُمَّ قَالَ: (أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ، وَأَلَّا يَكُونَ غَافِلًا عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقَرَّ الرَّازِيُّ هُنَا هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَيَّدَهُمَا أَشَدَّ التَّأْيِيدِ، وَلَمْ يُحَامِ عَنِ الْقِيَاسِ وَهُوَ الرُّكْنُ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ جُلَّ فِقْهِ أَصْحَابِهِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ، حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ غُلَاةِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَقَدْ حَرَّرَنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنَ التَّفْسِيرِ (السَّابِعِ) عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٥: ١٠١) بَعْدَ كَلَامٍ فِي ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ السَّادِسِ عِنْدَ تَفْسِيرِ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٥: ٣) وَنَقُولُ هُنَا

رَدًّا عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ: إِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَجْتَهِدُ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِالنَّصِّ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ لَا حُكُومَةَ لِلْإِسْلَامِ وَلَا أَحْكَامَ، وَحَيْثُ الدَّعْوَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ قَاصِرَةٌ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ وَكُلِّيَّاتِهِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالرِّسَالَةُ وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّنْفِيرُ عَنِ الرَّذَائِلِ وَعَمَلِ السُّوءِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيَقُولُ مُثْبِتُوا الِاجْتِهَادِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَذِنَ لَهُ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ) (٤: ١٠٥) أَيْ بِمَا أَرَاكَهُ فِيهِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً وَاجْتِهَادًا، وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمَانِعِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا أَيْضًا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ نَصًّا فِي الْمَنْعِ وَلَا الْإِثْبَاتِ [رَاجِعْ ص ٣٢٢ ج ٥ ط الْهَيْئَةِ] وَبَيَّنَاهُ هُنَالِكَ أَنَّ آيَةَ النَّجْمِ خَاصَّةٌ بِالْقُرْآنِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْطِقْ إِلَّا بِالْوَحْيِ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْقَطِعُ عَنْهُ أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَقَدْ حَكَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَسْرَى بَدْرٍ بِاجْتِهَادِهِ، وَعَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُقِرُّهُ عَلَيْهِ. وَالْقَائِلُونَ بِالْمَنْعِ لَا يَحْصُرُونَ الْوَحْيَ فِي الْقُرْآنِ. وَإِذَا كَانَ حُكْمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنَ الْوَحْيِ مَبْنِيًّا عَلَى إِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُ بِالِاجْتِهَادِ - يَكُونُ مُتَّبِعًا فِيهِ لِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْقِيَاسِ: إِذَا ثَبَتَ الْإِذْنُ بِهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ الْحُكْمُ بِهِ اتِّبَاعًا لِلْوَحْيِ، وَثُبُوتُهُ فِي السُّنَّةِ يَرْجِعُ إِلَى الْقُرْآنِ، إِذْ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَشَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ

<<  <  ج: ص:  >  >>