وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ وَذَكَرَ قَوْلَهُ: (وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ قَدْ تَمَّ بِمَا قَبْلَهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ انْتِفَاءِ كَوْنِ حِسَابِهِمْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَظْمِهِ فِي سِلْكِ مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ أَصْلًا، وَهُوَ انْتِقَاءُ كَوْنِ حِسَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) . اهـ. ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرُ حَقِيقٍ بِجَلَالَةِ شَأْنِ التَّنْزِيلِ، وَتَبِعَهُ الْأَلُوسِيُّ كَعَادَتِهِ وَلَمْ يَعْزُ الْكَلَامَ إِلَيْهِ هُنَا. وَلَعَلَّ الْمُتَأَمِّلَ يَرَى أَنَّ مَا قُلْنَاهُ هُوَ الْحَقِيقِيُّ بِجَلَالِ شَأْنِ التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَى كَوْنِهِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْكَلَامِ - مَبْنِيٌّ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَبَقَائُهُ مُحْكَمًا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ نَسْخٌ وَلَا تَخْصِيصٌ، وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.
قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَتَقْدِيمُ خِطَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَوْضِعَيْنِ قِيلَ: لِلتَّشْرِيفِ لَهُ - عَلَيْهِ أَشْرَفُ الصَّلَاةِ وَأَفْضَلُ السَّلَامِ - وَإِلَّا كَانَ الظَّاهِرُ: وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِكَ مِنْ شَيْءٍ، بِتَقْدِيمِ عَلَى وَمَجْرُورِهَا كَمَا فِي الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: إِنَّ تَقْدِيمَ عَلَيْكَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى لِلْقَصْدِ إِلَى إِيرَادِ النَّفْيِ عَلَى اخْتِصَاصِ حِسَابِهِمْ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ هُوَ الدَّاعِي إِلَى تَصَدِّيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحِسَابِهِمْ. اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّ التَّقْدِيمَ فِي الْمَوْضُوعَيْنِ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ الْعَامِّ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ بِحَسَبِ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَالْأَهَمُّ فِي الْأَوَّلِ النَّفْيُ، وَفِي الثَّانِي الْمَنْفِيِّ، أَعْنِي الْأَهَمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِانْتِفَاءِ عَمَلٍ لَهُ (وَهُوَ الطَّرْدُ) مُتَرَتِّبٌ عَلَى ذَلِكَ النَّفْيِ، وَلَوْ كَانَ الثَّانِي تَعْلِيلًا لِعَمَلٍ لَهُمْ لَقَالَ: وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِكَ مِنْ شَيْءٍ فَيَطْرُدُوكَ، وَمَا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَتَيْنِ يُغْنِي عَنِ التَّفْصِيلِ فِي بَيَانِ هَذَا الْمَعْنَى.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ فِي الْمِلَلِ الْأُخْرَى، وَهِيَ سَيْطَرَةُ رُؤَسَاءِ الدِّينِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَيْهَا، وَعُقَابُ مَنْ يَرَوْنَ عِقَابَهُ مِنْهُمْ حَتَّى بِالطَّرْدِ مِنَ الدِّينِ وَالْحِرْمَانِ مِنْ حُقُوقِهِ، وَيَجِبُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمِلَلِ أَنْ يَعْتَرِفَ كُلُّ مُكَلَّفٍ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى لِلرَّئِيسِ الدِّينِيِّ بِأَعْمَالِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَلِلرَّئِيسِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَغْفِرَةَ اللهِ تَعَالَى تَتْبَعُ مَغْفِرَتِهِ،
وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لِلرَّسُولِ الَّذِي أَوْجَبَ طَاعَتَهُ حَقَّ مُحَاسَبَةِ النَّاسِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَنِيَّتِهِمْ فِيهَا، وَلَا حَقَّ طَرْدِهِمْ مِنْ حَضْرَتِهِ - دَعْ حَقَّ طَرْدِهِمْ مِنَ الدِّينِ - فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ دُونَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ أَوِ الْقَضَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ مِثْلُ هَذَا الْحَقِّ؟ ! وَيُسْتَنْبَطُ مِنَ الْآيَةِ أَلَّا يَجُوزَ لِرُؤَسَاءِ الْمَدَارِسِ الدِّينِيَّةِ وَلَا يَنْبَغِيَ لِغَيْرِهِمْ - عِقَابُ أَحَدٍ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ بِالْحِرْمَانِ مِنْ بَعْضِ الدُّرُوسِ فَضْلًا عَنْ طَرْدِهِ مِنَ الْمَدْرَسَةِ، وَحِرْمَانِهِ مَنْ تَلَقِّي الدِّينِ وَالْعِلْمِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنْ قَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى نِظَامٍ لَا لِأَجْلِ الِانْتِقَامِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute