للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَهْمُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَالْحُكَمَاءِ لِلْآيَةِ

قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ الَّذِي سَمَّاهُ (مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) مَا نَصُّهُ:

" اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) يَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ يُعَجِّلُ مَا تَعْجِيلُهُ أَصْلَحُ وَيُؤَخِّرُ مَا تَأْخِيرُهُ أَصْلَحُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ، وَمَفْتَحٍ وَالْمِفْتَحُ بِالْكَسْرِ الْمِفْتَاحُ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ، وَالْمَفْتَحُ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْخِزَانَةُ، وَكُلُّ خِزَانَةٍ كَانَتْ لِصِنْفٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مَفْتَحٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) (٢٨: ٧٦) يَعْنِي خَزَائِنَهُ، فَلَفْظُ الْمَفَاتِحِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمَفَاتِيحُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ الْخَزَائِنُ. أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَقَدْ جَعَلَ لِلْغَيْبِ مَفَاتِيحَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ ; لِأَنَّ الْمَفَاتِيحَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَا فِي الْخَزَائِنِ الْمُسْتَوْثَقِ مِنْهَا بِالْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ، فَالْعَالِمُ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ وَكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي فَتْحِ تِلْكَ الْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ إِلَى مَا فِي تِلْكَ الْخَزَائِنِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقُرِئَ " مَفَاتِيحُ ". وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَالْمَعْنَى وَعِنْدَهُ خَزَائِنُ الْغَيْبِ، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي الْمُرَادُ مِنْهُ: الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١٥: ٢١) .

" وَلِلْحُكَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ عَجِيبٌ مُفَرَّعٌ عَلَى أُصُولِهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعِلْمِ بِالْعِلَّةِ، قَالُوا: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَوْجُودُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ. وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ، كَائِنٌ بِتَكْوِينِهِ وَاقِعٌ بِإِيقَاعِهِ، إِمَّا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَإِمَّا بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِمَّا بِوَسَائِطَ كَثِيرَةٍ عَلَى التَّرْتِيبِ النَّازِلِ مِنْ عِنْدِهِ طُولًا وَعَرْضًا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: عِلْمُهُ بِذَاتِهِ يُوجِبُ عِلْمَهُ بِالْأَثَرِ الْأَوَّلِ الصَّادِرِ مِنْهُ، ثُمَّ عِلْمُهُ بِذَلِكَ الْأَثَرِ الْأَوَّلِ يُوجِبُ عِلْمَهُ بِالْأَثَرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ الْأَوَّلَ عِلَّةٌ قَرِيبَةٌ لِلْأَثَرِ الثَّانِي، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ، فَبِهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ

لَيْسَ إِلَّا عِلْمُ الْحَقِّ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، ثُمَّ يَحْصُلُ بِهِ مِنْ عِلْمِهِ بِذَاتِهِ عِلْمُهُ بِالْآثَارِ الصَّادِرَةِ عَنْهُ عَلَى تَرْتِيبِهَا الْمُعْتَبَرِ، وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُ بِذَاتِهِ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا لِذَاتِهِ - لَا جَرَمَ - صَحَّ أَنْ يُقَالَ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) فَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ الْفِرْقَةِ الَّذِينَ فَسَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.

" ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا دَقِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ يَصْعُبُ تَحْصِيلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>