التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّوْحَ وَالْقَلَمَ وَالْعَرْشَ أَشْيَاءٌ مَوْجُودَةٌ هِيَ مَظْهَرُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّدْبِيرِ الرَّبَّانِيِّ الَّذِي قَامَ بِهِ نِظَامُ الْكَوْنِ، لَا تُشْبِهُ أَقْلَامَ الْبَشَرِ وَأَلْوَاحَهُمْ وَدَفَاتِرَهُمُ الَّتِي يُدَوِّنُونَ بِهَا نِظَامَ دُوَلِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، وَلَا عُرُوشَ مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ شَدِيدُ الْغُرُورِ بِعِلْمِهِ وَمَأْلُوفِهِ، فَالْأُمِّيُّ وَالصَّبِيُّ وَقَلِيلُ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ مِنْ أَفْرَادِهِ أَشَدُّ غُرُورًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَاسِعِي الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعَ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ مَا عِنْدَهُ مِنْ عِلْمٍ قَلِيلٍ مِعْيَارًا أَوْ قَالَبًا لِمَا لَا يَعْلَمُهُ - وَهُوَ كَثِيرٌ - وَمَهْمَا يَتَّسِعْ مِنْ عِلْمِ الْمَرْءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ فَمَا عِلْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، فَمَا الْقَوْلُ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ١٧: ٨٥) وَإِنَّ لَنَا فِي دِمَاغِ الْإِنْسَانِ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا الْمُقَامِ، فَهُوَ كَلَوْحٍ تَرْسِمُ فِيهِ أَقْلَامُ الْمَعْلُومَاتِ
الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ فِي كُلِّ آنٍ عِلْمًا جَدِيدًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَقْرَأَ مَا خَطَّهُ فِيهِ الزَّمَنُ الْمَاضِي كَمَا يُرَاجِعُ مَا يَكْتُبُ فِي الْقَرَاطِيسِ وَيُدَوِّنُ فِي الْأَسْفَارِ، فَإِنْ كَانَ يَنْسَى كَثِيرًا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، فَسَيَقْرَؤُهُ كُلَّهُ فِي كِتَابِهِ (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ٧٩: ٣٥) وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى تَأْوِيلُ الْغَزَالِيِّ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، فَإِنَّهُ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْمَغْرُورِينَ بِالْأَسْبَابِ الْقَرِيبَةِ لِلْحَوَادِثِ الَّذِينَ لَا تَرْتَقِي أَنْظَارُهُمْ فِي سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا مِنْهَا إِلَى خَالِقِهَا وَجَاعِلِهَا أَسْبَابًا: ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا نَمْلَةً وَاقِفَةً عَلَى قِرْطَاسٍ تُبْصِرُ رَأْسَ الْقَلَمِ يَجْرِي عَلَيْهِ، فَيُسَخِّمُهُ بِالسَّوَادِ، فَتَنْسُبُ هَذَا الْفِعْلَ إِلَيْهِ؛ إِذْ لَا يَمْتَدُّ نَظَرُهَا إِلَى الْيَدِ الْمُحَرِّكَةِ لَهُ، دَعْ صَاحِبَ الْيَدِ الْكَاتِبَ بِهِ الَّذِي لَوْلَاهُ لَمْ تَرَهُ يَكْتُبُ.
وَقَدْ شَرَحَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْمَثَلَ بِعِبَارَةٍ طَوِيلَةٍ مِنْ أَبْلَغِ مَا كَتَبَ قَلَمُهُ السَّيَّالُ، جَعَلَهَا مُحَاوَرَةً بَيْنَ أَحَدِ النَّاظِرَيْنِ عَنْ مِشْكَاةِ نُورِ اللهِ وَبَيْنَ الْقَلَمِ وَالْيَدِ مِنْ جَوَارِحِ الْبَشَرِ، ثُمَّ بَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْقَلَمِ الْإِلَهِيِّ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، عَاتَبَ الْقَلَمَ الَّذِي سَوَّدَ الْقِرْطَاسَ فَأَحَالَهُ عَلَى الْيَدِ الْمُحَرِّكَةِ لَهُ، وَهِيَ أَحَالَتْهُ عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي صَرَفَتْهَا فِي قَطْعِ الْقَلَمِ وَبَرْيِهِ وَالْكِتَابَةِ بِهِ، فَلَمَّا سَأَلَهَا عَنْ سَبَبٍ ذَلِكَ أَحَالَتْهُ عَلَى الْإِرَادَةِ الْمُسَخِّرَةِ لَهَا وَكَوْنِهَا لَا تَسْتَطِيعُ مُخَالَفَةَ أَمْرِهَا، وَهَذِهِ أَحَالَتْهُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مُرْشِدُهَا وَصَاحِبُ السُّلْطَانِ عَلَيْهَا لَا تَنْبَعِثُ إِلَّا إِذَا بَعَثَهَا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْعِلْمِ وَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ بَعْثِهِ الْإِرَادَاتِ إِلَى تَسْخِيرِ الْقُدَرِ فِي اسْتِخْدَامِ الْجَوَارِحِ، أَجَابَهُ أَنَّهُ خَطَّ رَسْمَهُ الْقَلَمُ الْإِلَهِيُّ فِي لَوْحِ الْقَلْبِ، وَقَالَ لَهُ: فَسَلِ الْقَلَمَ عَنِّي، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْقَلَمَ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ، وَأَنَّ فِي طَرِيقِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ الْمَهَامِهُ الْفَيَحُ، وَالْجِبَالُ الشَّاهِقَةَ، ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِي بَعْدَ حِوَارٍ طَوِيلٍ فِي ذَلِكَ:
" فَقَالَ السَّالِكُ السَّائِلُ: قَدْ تَحَيَّرْتُ فِي أَمْرِي، وَاسْتَشْعَرَ قَلْبِي خَوْفًا مِمَّا وَصَفْتَهُ مِنْ خَطَرِ الطَّرِيقِ، وَلَسْتُ أَدْرِي، أُطِيقُ قَطْعَ هَذِهِ الْمَهَامِهِ الَّتِي وَصَفْتَهَا أَمْ لَا؟ فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ؟ قَالَ نَعَمْ: افْتَحْ بَصَرَكَ، وَاجْمَعْ ضَوْءَ عَيْنَيْكَ وَحَدِّقْهُ نَحْوِي، فَإِنْ ظَهَرَ لَكَ الْقَلَمُ الَّذِي بِهِ انْكَتَبْتُ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute