للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(السَّادِسُ) قَالُوا: إِنَّ الرَّدَّ إِلَى اللهِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ وَحِسَابِهِ وَجَزَائِهِ، أَوْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، وَمَكَانِ الْعَرْضِ وَالسُّؤَالِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ إِلَى ذَاتِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَغَيْرُ مُمْكِنٍ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَرَبِيُّ الْقُحُّ لِفَهْمِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَةِ، وَلَا الدَّخِيلُ فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا مَنْ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَذْهَبِ غُلَاةِ أَهَلِ الْوَحْدَةِ، وَلَوْ صَحَّ مَذْهَبُهُمْ لَكَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ مَانِعًا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنَ الْعِبَارَةِ كَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ أُسْلُوبِهِ وَصْفُ اسْمِ الذَّاتِ بِمَا وُصِفَ بِهِ، وَمَا خُتِمَتْ بِهِ الْآيَةُ وَهَاكَ بَيَانُهُ:

(السَّابِعُ) أَنَّ وَصْفَ الِاسْمِ الْكَرِيمِ بِمَوْلَاهُمُ الْحَقِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَدَّهُمْ إِلَيْهِ حَتْمٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ سَيِّدُهُمُ الْحَقُّ الَّذِي يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ. وَالْحَقُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثَّبَاتُ الْمُتَحَقِّقُ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَتَحَلَّى بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، فَمَا كَانَ مِنْ تَوَلِّي بَعْضِ الْعِبَادِ أُمُورَ بَعْضٍ بِمَلْكِ الرَّقَبَةِ، أَوْ مَلْكِ التَّصَرُّفِ وَالسِّيَاسَةِ - فَمِنْهُ مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَمِنْهُ مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَوْقُوتٌ لَا ثَبَاتَ وَلَا بَقَاءَ لَهُ، وَحَقٌّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ أَقَرَّهُ فِي سُنَنِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ أَوْ شَرَائِعِهِ الْمُنَزَّلَةِ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ الْعَارِضَةِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ وَحْدَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ وِلَايَةِ غَيْرِهِ الْبَاطِلَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوِ الْبَاطِلَةِ فِي ذَاتِهَا دُونَ صُورَتِهَا الْمُؤَقَّتَةِ فَقَدْ زَالَ كُلُّ ذَلِكَ بِزَوَالِ عَالَمِ الدُّنْيَا وَبَقِيَ الْمَوْلَى الْحَقُّ وَحْدَهُ، كَمَا زَالَ كُلُّ مَلِكٍ وَمُلْكٍ صُورِيَّيْنِ كَانَا لِلْخَلْقِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَصَارُوا إِلَى يَوْمٍ لَا تَمْلِكُ فِيهِ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا (س ٨٢: ١٩) وَظَهَرَ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الْمِلْكَ الصُّورِيَّ وَالْحَقِيقِيَّ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (س ٤٠: ١٦) وَكُلُّ هَذَا مُبْطِلٌ لِخَيَالِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ وَهُوَ (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) " أَلَا " حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ يُذْكَرُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ لِتَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ لِمَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ مُهِمًّا؛ لِئَلَّا يَفُوتُهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَوْلُهُ: (لَهُ الْحُكْمُ) يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ لَهُ الْحُكْمُ وَحْدَهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَا عَلَى سَبِيلِ

الصُّورَةِ وَالْإِضَافَةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ٢٧: ٧٨) (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (٤٢: ١٠) (قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٣٩: ٤٦) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَفَسَّرَ كَوْنَهُ تَعَالَى أَسْرَعَ الْحَاسِبِينِ بِأَنَّهُ يُحَاسِبُ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ فِي أَسْرَعِ زَمَنٍ وَأَقْصَرِهِ لَا يَشْغَلُهُ حِسَابُ أَحَدٍ عَنْ حِسَابِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ فِيهِ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ؛ إِذْ لَا مُحَاسِبَ هُنَالِكَ غَيْرُهُ، أَوْ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحَاسَبِينَ أَوِ الْحَاسِبِينَ فِي غَيْرِ الْآخِرَةِ، وَلَفْظُ الْحَاسِبِينَ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ حَسَبَ الثُّلَاثِيِّ لَا مِنْ حَاسَبَ، وَالْحِسَابُ مَصْدَرٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، يُقَالُ: حَسَبَهُ حَسْبًا وَحِسَابًا وَحَاسَبَهُ مُحَاسَبَةً وَحِسَابًا، وَالْمُحَاسَبَةُ أَوِ الْحِسَابُ فِي الْمُعَامَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحَسْبِ وَالْحِسَابِ الَّذِي هُوَ الْعَدُّ وَالْإِحْصَاءُ، لِأَنَّ الْمُحَاسِبَ

<<  <  ج: ص:  >  >>