وَأَقُولُ الْآنَ: الْقَاعِدَةُ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصْدَرَهُ عِلَّةٌ لَهُ كَقَوْلِهِ: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (٥: ٣٨) : فَالسَّرِقَةُ عِلَّةٌ لِلْقَطْعِ. وَالْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ هُنَا كَذَلِكَ، وَالْمَعْنَى (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ) بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا السَّبَبَ الْخَاصَّ الْعَارِضَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي بِبَيَانِ سَبَبٍ عَامٍّ يَشْمَلُهُ وَيَشْمَلُ غَيْرَهُ هُمْ يَفْعَلُونَهُ دَائِمًا وَهُوَ قَوْلُهُ: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) أَيْ بِسَبَبِ تَكْرَارِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْهُمْ، وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، الَّذِي كَانَ هَذَا الظُّلْمُ مِنْهُ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَنَسْكُتُ عَنْ تَعْيِينِ نَوْعِ ذَلِكَ الرِّجْزِ، كَمَا هُوَ شَأْنُنَا فِي كُلِّ مَا أَبْهَمَهُ الْقُرْآنُ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ الطَّاعُونُ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (مِنَ السَّمَاءِ) وَهُوَ كَمَا تَرَاهُ. وَالرِّجْزُ: هُوَ الْعَذَابُ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ رِجْزٌ. وَقَدِ ابْتَلَى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالطَّاعُونِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَابْتَلَاهُمْ بِضُرُوبٍ أُخْرَى مِنَ النِّقَمِ فِي إِثْرِ كُلِّ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ ظُلْمِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ، وَمِنْ أَشَدِّ ذَلِكَ تَسْلِيطُ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ، وَحَسْبُنَا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ عِبْرَةً وَتَبْصِرَةً، فَنُعَيِّنُ مَا عَيَّنَهُ، وَنُبْهِمُ مَا أَبْهَمَهُ (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) .
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)
هَذَا بَيَانٌ لِحَالٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هِجْرَتِهِمْ وَعِنَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِمْ، فِيهَا أَصَابَهُمُ الظَّمَأُ فَعَادُوا عَلَى مُوسَى بِاللَّائِمَةِ أَنْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ الْخِصْبَةِ الْمُتَدَفِّقَةِ بِالْأَمْوَاهِ، وَكَانُوا عِنْدَ كُلِّ ضِيقٍ يَمُنُّونَ عَلَيْهِ أَنْ خَرَجُوا مَعَهُ مِنْ مِصْرَ وَيَجْهَرُونَ بِالنَّدَمِ.
فَاسْتَغَاثَ مُوسَى بِرَبِّهِ وَاسْتَسْقَاهُ لِقَوْمِهِ، كَمَا قَصَّهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ) أَيْ طَلَبَ السُّقْيَا لَهُمْ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ حَجَرًا مِنْ حِجَارَةِ تِلْكَ الصَّحْرَاءِ بِتِلْكَ الْعَصَا الَّتِي ضَرَبَ بِهَا الْبَحْرَ، فَضَرَبَهُ (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) بِعَدَدِ أَسْبَاطِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) .
(قَالَ) : وَكَوْنُ هَذَا الْحَجَرِ هُوَ الَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ تَدَحْرَجَ بِثَوْبِ مُوسَى يَوْمَ كَانَ يَغْتَسِلُ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَقِصَّةُ الثَّوْبِ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ، فَيُحْمَلُ تَعْرِيفُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute