الْكَفَّارِ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمُبْتَدِعِ ; لِأَنَّهُ يُحْذَرُ مِنَ الْأَوَّلِ عَلَى ضَعْفِ شُبْهَتِهِ، مَا لَا يُحْذَرُ مِنَ الثَّانِي وَهُوَ يَجِيئُهُ مِنْ مَأْمَنِهِ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَقْعُدَ الْمُؤْمِنُ بِاخْتِيَارِهِ مَعَ الْكَفَّارِ فِي حَالِ اسْتِهْزَائِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِهَا، وَطَعْنِهِمْ فِيهَا كَمَا يَقْعُدُ مُخْتَارًا مَعَ الْمُجَادِلِينَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلِينَ لَهَا، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ قُعُودُ الْمُؤْمِنِ مَعَ الْكَافِرِ الْمُسْتَهْزِئِ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهَا، كَشِدَّةِ الضَّعْفِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَلَمْ تَكُنْ مَكَّةُ دَارَ إِسْلَامٍ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَيَدْخُلُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْمُقَلِّدُونَ الْجَامِدُونَ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ تَطْبِيقَ آيَاتِ اللهِ وَسُنَنِ رَسُولِهِ عَلَى آرَاءِ مُقَلِّدِيهِمْ بِالتَّكَلُّفِ، أَوْ يَرُدُّونَهَا وَيُحَرِّمُونَ الْعَمَلَ بِهَا بِدَعْوَى احْتِمَالِ النَّسْخِ أَوْ وُجُودِ مُعَارِضٍ آخَرَ، وَقَدْ نَقَلْنَا كَلَامًا فِي هَذَا الْمَعْنَى عَنْ فَتْحِ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (٤: ١٤٠) . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُحَرِّفُ آيَاتِ اللهِ عَنْ مَوَاضِعِهَا بِهَوَاهُ لِأَجْلِ أَنْ يُكَفِّرَ بِهَا مُسْلِمًا أَوْ يُضْلَلَ بِهَا مُهْتَدِيًا، بَغْيًا عَلَيْهِ وَحَسَدًا لَهُ، كَمَا فَعَلَ بَعْضُ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ بِمِصْرَ فِي هَاتَيْنِ
الْآيَتَيْنِ، وَفِيمَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ تَوَلِّي أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكَفَّارِ بِنَحْوِ إِعَانَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (٦٠: ١) زَعَمَ الْمُحَرِّفُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَنْطَبِقُ عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَادِيًا لِلنَّصَارَى ابَّنُوا فِيهِ طَبِيبًا مِنْهُمْ لَمْ يَكْفُرُوا فِيهِ بِآيَاتِ اللهِ، وَلَمْ يَسْتَهْزِئُوا بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ مِنْ مَوْضُوعِ حَدِيثِهِمْ، وَلَيْسُوا مُحَارِبِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمِثْلُ هَذَا التَّحْرِيفِ أَوْلَى بِالدُّخُولِ فِي عُمُومِ آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالنِّسَاءِ مِنْ تَأْوِيلِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَالشِّيَعِ الَّذِي نَقَلْنَا عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ إِدْخَالَهُ فِيهِ أَوْ تَفْسِيرِهِ بِهِ. وَأَمَّا تَحْرِيفُ آيَةِ الْمُمْتَحِنَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَيَرُدُّهُ تَقْيِيدُ النَّهْيِ - وَهُوَ فِي وِلَايَةِ الْمُحَارِبِينَ - بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَطَنِهِمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ تَأْيِيدُ هَذَا التَّقْيِيدِ بِمَا يَنْفِي عُمُومَ النَّهْيِ، وَذَلِكَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ بَعْدَهُ: (لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (الظَّالِمُونَ) (٨، ٩) .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ مِنَ الْجُزْءِ الْخَامِسِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَقْعُدُونَ فِي الْمَدِينَةِ مَعَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِمَا ذُكِرَ، كَمَا فَعَلَ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ كَمَا أَنْزَلَ آيَةَ الْأَنْعَامِ فِي أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّشْدِيدُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ أَعْظَمَ مِنْهُ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ ; إِذْ كَانَ لِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْعُذْرِ، وَلَيْسَ لِمُنَافِقِي الْمَدِينَةِ عُذْرٌ إِلَّا إِخْفَاءُ الْكُفْرِ، عَلَى أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي هَذَا النَّهْيِ، فَعَمِلَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَانْتَهَوْا عَمَّا قِيلَ إِنَّهُ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ، فَمَا عُذْرُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْقُعُودِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute