نَفَاهُ اللهُ عَنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ كِبَارِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ بِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى فَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ الْمَعْصُومِينَ بِإِعَانَتِهِ عَلَى شَيْطَانِهِ حَتَّى أَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْحَقِّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ يَنْسَى الْإِنْسَانُ خَيْرًا بِاشْتِغَالِ فِكْرِهِ بِخَيْرٍ
آخَرَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نُهِيَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ يَنْسَى، فَإِذَا ذَكَرَ فَلْيَقُمْ. إِلَخْ. رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَأَمَّا وُقُوعُ النِّسْيَانِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ وَسْوَسَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ فِي جَوَازِهِ، قَالَ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) (١٨: ٢٤) بَلْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (الْكَهْفِ) وُقُوعُهُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ) (١٨: ٧٣) وَإِنَّمَا يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْ نِسْيَانِ شَيْءٍ مِمَّا أَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتَبْلِيغِهِ، وَهَذَا مَحَلُّ إِجْمَاعٍ، وَمِثْلُهُ النِّسْيَانُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِخْلَالٌ كَإِضَاعَةِ فَرِيضَةٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ، أَوْ تَحْلِيلِ حَرَامٍ، وَقَدْ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) (٢: ١٠٦) بِبُطْلَانِ مَا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رُبَّمَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ وَنَسِيَهُ بِالنَّهَارِ، فَأَنْزَلَ اللهُ (مَا نَنْسَخْ) الْآيَةَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الْقَطْعِيَّةِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ إِسْنَادُ النِّسْيَانِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ " فَنَسِيتُ " وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ " فَأُنْسِيتُهَا " وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ سَهْوُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَهُمْ مَا عَدَا التِّرْمِذِيَّ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي " إِلَخْ. وَهُوَ فِي بَابِ التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ مِنَ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لَهُ مِنَ الْفَتْحِ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ السَّهْوِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ فِي الْأَفْعَالِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالنُّظَّارِ، وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ السَّهْوُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمُ. اهـ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا نَصُّهُ: " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، بَلْ يُعْلِمُهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ، ثُمَّ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: شَرْطُهُ تُنَبُّهُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْفَوْرِ مُتَّصِلًا بِالْحَادِثَةِ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ تَأْخِيرٌ، وَجَوَّزَتْ طَائِفَةٌ تَأْخِيرَهُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَمَنَعَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ السَّهْوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute