للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا مَا نَقُولُهُ لَهُ إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ كَانَ قَبْلَ التِّيهِ لَا فِيهِ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ أَرْضَ التِّيهِ هِيَ الْأَرْضُ الْمُمْتَدَّةُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ مِنْ بَيْدَاءِ فِلَسْطِينَ مِمَّا يَلِي

حُدُودَ مِصْرَ، وَفِيهَا كَانَ الِاسْتِسْقَاءُ بِلَا خِلَافٍ. (وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ) أَنَّهُ كَانَ فِي رُفَيْدِيمَ الَّتِي انْتَقَلَ إِلَيْهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ (سِينَ) الَّتِي بَيْنَ إِيلِيمَ وَسَيْنَاءَ. وَيُطْلَقُ التِّيهُ عَلَى ضَلَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْأَرْضِ.

وَالْعِبْرَةُ فِي الْقِصَّةِ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ مُوسَى كَانَ يُحَاوِلُ نَزْعَ مَا فِي قُلُوبِ قَوْمِهِ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي أُشْرِبُوا عَقَائِدَهُ فِي مِصْرَ، وَمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الذُّلِّ الَّذِي طَبَعَهُ فِيهَا اسْتِبْدَادُ الْمِصْرِيِّينَ وَتَعْبِيدُهُمْ إِيَّاهُمْ؛ لِيَكُونُوا أَعْلِيَاءَ أَعِزَّاءَ بِعِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَأَنْ يَدْخُلَ بِهِمْ أَرْضَ الْمِيعَادِ، وَهِيَ بِلَادُ الشَّامِ الَّتِي وَعَدَ اللهُ بِهَا آبَاءَهُمْ، وَكَانُوا لِطُولِ الْإِقَامَةِ فِي مِصْرَ قَدْ أَلِفُوا الذُّلَّ وَأَنِسُوا بِالشَّعَائِرِ وَالْعَادَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، فَكَانُوا لَا يَخْطُونَ خُطْوَةً إِلَّا وَيُتْبِعُونَهَا بِخَطِيئَةٍ، وَكُلَّمَا عُرِضَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ مَشَقَّاتِ السَّفَرِ يَتَبَرَّمُونَ بِمُوسَى وَيَتَحَسَّرُونَ عَلَى مِصْرَ وَيَتَمَنَّوْنَ الرُّجُوعَ إِلَيْهَا (كَمَا سَبَقَ الْقَوْلُ) وَيَسْتَبْطِئُونَ وَعْدَ اللهِ، فَتَارَةً يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا غَيْرَ اللهِ، وَتَارَةً يَصْنَعُونَ عِجْلًا وَيَعْبُدُونَهُ، وَتَارَةً يَفْسُقُونَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَيَكْفُرُونَ نِعَمَهُ. وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللهُ أَبَوْا وَاعْتَذَرُوا بِالْخَوْفِ مِنْ أَهْلِهَا الْجَبَّارِينَ، لِمَا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجُبْنِ الَّذِي هُوَ حَلِيفُ الذُّلِّ، وَكَانَ مُوسَى أَرْسَلَ كَالِبًا وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ رَائِدَيْنِ لِيَنْظُرَا حَالَ الْبِلَادِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَأَرْسَلَ غَيْرَهُمَا عَشْرَةً مِنْ بَقِيَّةِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخْبَرَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ قَوْمًا جَبَّارِينَ، فَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا، فَأَخْبَرَ يُوشَعُ وَكَالِبٌ بِأَنَّ الْأَرْضَ كَمَا وَعَدَ اللهُ، وَأَنَّ دُخُولَهَا سَهْلٌ وَالظَّفَرَ مَضْمُونٌ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا لَهُمَا بَلْ (قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا) (٥: ٢٤) ، فَضَرَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ التِّيهَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ؛ وَهِيَ إِرَادَةُ انْقِرَاضِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَأَشَّبَتْ فِي نُفُوسِهِمْ عَقَائِدُ الْوَثَنِيَّةِ، وَزَايَلَتْهَا صِفَاتُ الرُّجُولِيَّةِ حَتَّى فَسَدَ مِزَاجُهَا وَتَعَذَّرَ عِلَاجُهَا، وَخُرُوجِ نَشْءٍ جَدِيدٍ يَتَرَبَّى عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَأَخْلَاقِ الشَّهَامَةِ وَالرُّجُولِيَّةِ، فَتَاهُوا حَتَّى انْقَرَضَ أُولَئِكَ الْمُصَابُونَ بِاعْتِلَالِ الْفِطْرَةِ، وَبَقِيَ النَّشْءُ الْجَدِيدُ وَبَعْضُ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ صِغَارًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ، وَقَضَى اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>