للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَاجْتِهَادًا فِيمَا يَنْبَغِي. وَالْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ وَغَيْرُ الْمُرْسَلِينَ، هُمْ سَادَاتُ الْمُتَّقِينَ، فَهُمْ لَا يَغْفُلُونَ عَنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، فَأَنَّى يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِمْ أَدْنَى سُلْطَانٍ؟ .

وَأَمَّا النِّسْيَانُ الَّذِي تَكُونُ الْوَسْوَسَةُ سَبَبُهُ فَلَيْسَ طَاعَةً لِلشَّيْطَانِ فَيَكُونُ مِنْ سُلْطَانِهِ الْمُجَازِيِّ عَلَى النَّاسِي، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ نِسْيَانُ وَاجِبٍ أَدَّى إِلَى تَرْكِهِ حَتَّى فَاتَ وَقْتُهُ، أَوْ نِسْيَانُ نَهْيٍ أَدَّى إِلَى فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ - كَانَ وُقُوعُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مُشْكِلًا، وَلَيْسَ مِنْهُ نِسْيَانُ يُوسُفَ لِذِكْرِ رَبِّهِ عِنْدَ كَلَامِهِ مَعَ أَحَدِ صَاحِبَيِ السِّجْنِ، وَلَا نِسْيَانُ فَتَى مُوسَى لِلْحُوتِ، وَنَبِيُّنَا - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ - لَمْ يَقَعْ مِنْهُ نِسْيَانٌ أَدَّى إِلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ كَقُعُودِهِ مَعَهُمْ نَاسِيًا، وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ - مَعَاذَ اللهِ - لَمْ يَكُنْ مِنْهُ مَعْصِيَةً كَمَعْصِيَةِ آدَمَ ; لِأَنَّ اللهَ رَفَعَ عَنْهُ وَعَنْ أُمَّتِهِ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يَأْتِي قَرِيبًا. وَلَكِنَّ هَذَا النِّسْيَانَ يُنَافِي الْعَزْمَ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُ أُولِي الْعَزْمِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (٢٠: ١١٥) وَقَالَ: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (٢٠: ١٢١) وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ يَعْدُّونَ الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْقَدَ الْمُشْكِلَاتِ فِي بَابِ الْقَوْلِ بِعِصْمَةِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ - مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الِامْتِحَانِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ نَبِيًّا رَسُولًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِعِصْمَةِ

الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَإِنَّمَا مَنَعُوا صُدُورَ الْكَبَائِرَ عَنْهُمْ عَمْدًا، قَالَ فِي " الْمَوَاقِفِ ": وَأَمَّا سَهْوًا فَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَأَمَّا الصَّغَائِرُ عَمْدًا، فَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ إِلَّا الْجُبَّائِيَّ، وَأَمَّا سَهْوًا فَهُوَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا، إِلَّا الصَّغَائِرَ الْخَسِيسَةَ كَسَرِقَةِ حَبَّةٍ أَوْ لُقْمَةٍ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَلَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةُ آدَمَ إِلَّا عَنْ نِسْيَانٍ، وَحِكْمَتُهَا أَنَّهَا مَظْهَرُ اسْتِعْدَادِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَلَمْ تَكُنْ سَبَبًا لِسُوءِ قُدْوَةٍ، وَلَا مُعَارَضَةَ لِمَا قِيلَ فِي بُرْهَانِ الْعِصْمَةِ.

وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ إِنْجِيلَ مَتَّى رَوَى أَنَّ إِبْلِيسَ حَاوَلَ فِتْنَةَ - أَيْ تَجْرِبَةَ - سَيِّدِنَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِعِدَّةِ أُمُورٍ، ثُمَّ قَالَ: (٤: ٨ ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجَّدَهَا (٩ وَقَالَ لَهُ: أُعْطِيكَ هَذِهِ جَمِيعًا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي (١٠) حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ؛ لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلَهَكَ تَسْجُدُ، وَإِيَّاهُ تُعْبَدُ) . وَعِنْدَنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعَاذَ عِيسَى وَأُمَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمَسُّهُ حِينَ وُلِدَ كَمَا يَمَسُّ الْوِلْدَانَ، فَنَحْنُ أَشَدُّ تَعْظِيمًا لَهُمَا بِالْحَقِّ مِمَّنْ عَبَدُوهُمَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَيْسَتْ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ لِأَيِّ إِنْسَانٍ وَأَمْرُهُ إِيَّاهُ بِالشَّرِّ وَنَهْيُهُ عَنِ الْخَيْرِ بِنَقِيصَةٍ، وَإِنَّمَا النَّقِيصَةُ طَاعَتُهُ لَعَنَهُ اللهُ، وَقَدْ عَصَمَ اللهُ تَعَالَى مِنْهَا رُسُلَهُ وَحَفِظَ مَنْ دُونَهُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ.

فَمَثَلُ قُرَنَاءِ السُّوءِ مِنْ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ كَمَثَلِ مِيكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ مِنْ جِنَّةِ الْحَشَرَاتِ؛

<<  <  ج: ص:  >  >>