للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِخَوْضِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ، وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَجَنُّبُهُمْ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ، فَلَيْسَ سَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا لَوْ لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى مَا أَخَّرَ النَّهْيَ إِلَّا إِلَى وَقْتِهِ الْمُنَاسِبِ لَهُ، وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ قَبْلَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) (٤: ٢٢، ٢٣) .

(وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أَيْ: وَلَكِنْ جُعِلَ النَّهْيُ مَوْعِظَةً وَذِكْرَى؛ لَعَلَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ تَعَالَى يَتَّقُونَ أَيْضًا كُلَّ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُمْ مِنْ سَمَاعِ الْخَوْضِ فِي آيَاتِ اللهِ بِالْبَاطِلِ، فَهَذِهِ التَّقْوَى الْمَرْجُوَّةُ بِالنَّهْيِ هِيَ تَقْوَى خَاصَّةٌ، وَتِلْكَ التَّقْوَى هِيَ الْكُلِّيَّةُ الْعَامَّةُ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ عِنْدَنَا. وَالذِّكْرَى هُنَا بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ، وَفِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِمَعْنَى التَّذَكُّرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَعْرَضُوا أَوْ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَلَكِنْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُذَكِّرُوهُمْ، أَيْ يَعِظُوهُمْ وَيُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الْخَوْضَ وَلَوْ فِي حَضْرَتِهِمْ.

ذَكَرُوا هَذَا الْمَعْنَى لِلذِّكْرَى عَلَى كُلٍّ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ذَكِّرُوهُمْ ذَلِكَ، وَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْكُمْ فَيَتَّقُونَ مُسَاءَتَكُمْ، وَكَأَنَّهُ نَسِيَ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَضْطَهِدُونَ فِيهِ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ الِاضْطِهَادِ، وَيَتَحَرَّوْنَ مُسَاءَتَهُمْ، وَيَكْرَهُونَ مَسَرَّتَهُمْ، وَقَدْ يَتَّجِهُ جَعْلُ التَّذْكِيرِ لَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ إِذَا صَحَّ مَا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَئِنْ كُنَّا كُلَّمَا اسْتَهْزَأَ الْمُشْرِكُونَ بِالْقُرْآنِ وَخَاضُوا فِيهِ قُمْنَا عَنْهُمْ لَمَا قَدَرْنَا أَنْ نَجْلِسَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَنْ نَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَحَصَلَتِ الرُّخْصَةُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقْعُدُوا مَعَهُمْ وَيُذَكِّرُوهُمْ وَيُفَهِّمُوهُمْ. انْتَهَى. وَهُوَ مُعَارَضٌ بِنُزُولِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ. وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقُعُودَ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَلَا الْإِقْبَالَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الْقُعُودُ بِالْبَيْتِ فَلَا ضَرَرَ فِي تَرْكِهِ إِذَا اسْتَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ الرَّازِيَّ اكْتَفَى بِهَذَا الْوَجْهِ الضَّعِيفِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ؛ لَا نَقْلًا وَلَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ.

أَشَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ إِلَى أَنَّ جَعْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي جَمَاعَةِ الْمُتَّقِينَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمُرَادُونَ فِيمَا قَبْلَهَا بِخِطَابِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دُونِهِ، وَيُؤَكِّدُهُ الرُّجُوعُ

إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ اللَّعِبِ وَاللهْوِ وَنُكْتَةِ تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (٣٢) وَالْمَعْنَى هُنَا وَدِّعْ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَمِثْلُهُ فِيهِ مَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُونَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَمِثْلُهُمْ كُلُّ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الْفَانِيَةُ، فَآثَرُوهَا عَلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، بَلْ أَنْكَرَهَا الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>