التَّشْبِيهَ مُثْبِتٌ لِلْغُولِ الَّذِي نَفَاهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَخَذَ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَهُ؛ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ قَدْ يُبْنَى عَلَى الْمُتَعَارَفِ لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ، وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا كَانَتْ تَزْعُمُهُ الْعَرَبُ وَتَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّ الْجِنَّ تَسْتَهْوِي الْإِنْسَانَ، وَالْغِيلَانَ تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: (الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (٢: ٢٧٥) انْتَهَى. وَقَدْ شَنَّعَ عَلَيْهِ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي هَذَا، إِذْ جَعَلَهُ مِنْ إِنْكَارِ الْجِنِّ - وَهُوَ لَا يُنْكِرُهُمْ - وَتَبِعَهُ الْأَلُوسِيُّ فَقَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى زَعَمَاتِ الْعَرَبِ كَمَا زَعَمَ مَنِ اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ. انْتَهَى. وَمَا هَذَا الشَّنِيعُ إِلَّا مِنْ تَعَصُّبِ الْمَذَاهِبِ، وَلَوْلَاهُ لَمَا وَقَعَ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْأَذْكِيَاءِ فِي هَذِهِ الْغَيَاهِبِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى كَوْنِ مَا كَانَتْ تَزْعُمُهُ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَّبَهُمْ فِي دَعْوَى الْغُولِ، وَأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ أَخَذُوا بِهَذَا التَّكْذِيبِ
وَلَمْ يُؤَوِّلُوهُ، وَأَنَّ مَنْ أَوَّلَهُ بِإِنْكَارِ تَغَوُّلِ الْغِيلَانِ وَإِضْلَالِهِمْ لِلنَّاسِ مُكَذِّبٌ لِلْعَرَبِ فِي زَعْمِهَا ذَاكَ، وَإِنَّمَا بَنَى التَّشْبِيهَ عَلَى مَا قِيلَ مِنِ اسْتِهْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ بِتَغَوِّلِهِمْ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ وُجُودِهِمْ، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِهْوَاءُ بِتَخَيُّلَاتٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ أَبْلَغَ وَأَقْوَى، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ مَنْ يَتْبَعْ دَاعِيَ الشِّرْكِ كَالْمُسْتَهْوَى بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ مِنَ الْأَوْهَامِ الضَّارَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى الْأَغْوَالِ الْخَيَالِيَّةِ. وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إِنْكَارَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَمَا كَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَا شِيعَتُهُ مِنَ الْمُنْكِرِينَ، وَإِنَّمَا الْجِنُّ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، لَا نُصَدِّقُ مِنْ خَبَرِهِمْ إِلَّا مَا أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ، أَوْ مَا هُوَ فِي قُوَّتِهِ مِنْ دَلِيلِ الْحِسِّ أَوِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ شَرْعًا وَلَا عَقْلًا وَلَا اخْتِيَارًا أَنَّ شَيَاطِينَ الْجِنِّ تَأْكُلُ النَّاسَ، وَلَا أَنَّهَا تَظْهَرُ لَهُمْ فِي الْفَيَافِي وَالْقِفَارِ، كَمَا كَانَتْ تَزْعُمُ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ فِي طَوْرِ الْجَهْلِ وَالْخُرَافَاتِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ خُرَافَةَ فَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَفِي الشَّمَائِلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَقِيلٍ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَقِيلٍ الثَّقَفِيِّ، وَأَبُو عَقِيلٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَالظَّاهِرِ أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، فَهُوَ نَحْوٌ مِمَّا نَقَلَهُ الْكَلْبِيُّ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ أَسَرَتْهُ الْجِنُّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَقَامَ فِيهِمْ زَمَنًا ثُمَّ أَعَادُوهُ إِلَى الْإِنْسِ، فَكَانَ يُحَدِّثُ بِمَا رَأَى فِيهِمْ مِنَ الْعَجَائِبِ، فَصَارَ النَّاسُ يَقُولُونَ: " حَدِيثُ خُرَافَةَ " لِكُلِّ حَدِيثٍ مُسْتَمْلَحٍ يُكَذِّبُونَهُ، عَلَى أَنَّ مَا عَسَاهُ يَثْبُتُ لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لَا يُتَّخَذُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَا كَذَّبَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مِنْ أَخْبَارِ الْأَغْوَالِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مُعَارِضٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي التَّشْبِيهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يُسَمَّى مَا كَانَ يَتَرَاءَى لَهُمْ بِالشَّيْطَانِ لِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَالسَّرَابِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، أَوْ يَكُونُ حَيَوَانًا مُفْتَرِسًا تُمَثِّلُهُ الْأَوْهَامُ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَرَاجِعْ مَا يُقَرِّبُ لَكَ فِي هَذَا تَفْسِيرَ (وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (٤: ١٥٧) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute