للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَوْلِيَاءٍ مِنَ الْعِبَادِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ وُسَطَاءُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي شُئُونِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَالْإِشْقَاءِ وَالْإِسْعَادِ، وَالسَّلْبِ وَالْإِمْدَادِ، لَا فِي مُجَرَّدِ التَّبْلِيغِ وَالْإِرْشَادِ قِيَاسًا عَلَى مَا يَعْهَدُونَ مِنَ الْأَقْرَبِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ، فَهُمْ لِذَلِكَ يَدْعُونَهُمْ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (١٠: ١٨) وَكَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنْهُمْ بِالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّرَكَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) (٣٩: ٣) الْآيَةَ. وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي طَوَافِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.

وَأَصْلُ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ وَأَوْثَانِهِمُ الْغُلُوُّ فِي تَعْظِيمِ الصَّالِحِينَ، فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ؛

كَانَ فِيهِمْ رِجَالٌ صَالِحُونَ هَلَكُوا، فَأَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ أَنْصَابًا، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ (رَاجِعْ سُورَةَ نُوحٍ مِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَقَدْ هَدَمَ الْقُرْآنُ جَمِيعَ قَوَاعِدِ شِرْكِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ جَعَلُوا مَدَارَ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ عَلَى شَفَاعَةِ أَنْبِيَائِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ، لَا عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ وَفَضْلِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ أَعْلَى الْبَشَرِ مَقَامًا فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ - وَمَقَامُهُ الْأَعْلَى فِي الرُّسُلِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَقَامُهُ - كَرَّرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ذِكْرَ كُفْرِ وَالِدِهِ وَاجْتِهَادِهِ هُوَ فِي هِدَايَتِهِ وَعِنَايَتِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمْ يُفِدْهُ شَيْئًا، وَزَادَ الرَّسُولُ الْأَعْظَمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَّنَ لَنَا مَا أَطْلَعَهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ عَاقِبَتِهِ السُّوأَى فِي الْآخِرَةِ. وَذُكِرَ أَيْضًا عَنْ أَبَوَيْهِ مَا عَلِمْتَ مِنْ رِوَايَاتِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الْإِذْعَانِيِّ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْعَمَلِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لَا بِأَشْخَاصِ الرُّسُلِ وَتَأْثِيرِهِمُ الشَّخْصِيِّ عِنْدَ اللهِ، كَتَأْثِيرِ الْأَقْرَبِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ، إِذْ يَحْمِلُونَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ أَوِ الْإِقْنَاعِ عَلَى عَفْوٍ عَنْ مُذْنِبٍ أَوْ إِحْسَانٍ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، وَهَذِهِ هِيَ نَظَرِيَّةُ الْوَثَنِيِّينَ فِي الشَّفَاعَةِ الَّتِي نَفَاهَا الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، وَأَثْبَتَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ لِلشَّافِعِ وَرِضَاهُ عَنِ الْمَشْفُوعِ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ وَفِي غَيْرِهَا.

وَلَا يُرَدُّ عَلَى حَصْرِ وَظِيفَةِ الرُّسُلِ فِي التَّبْلِيغِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا يُؤَيِّدُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا يَحْصُلُ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْهُمْ لَا يَصِحُّ أَنْ تُعَدَّ مِنْ جُمْلَةِ كَسْبِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ، وَلَا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُدْعَوْا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا لِفِعْلِهَا، كَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ، وَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، بَلْ هِيَ مِنْ تَصَرُّفِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، سَوَاءٌ مِنْهَا مَا لَا دَخْلَ لَهُمْ فِيهِ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ كَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَمَا يَجْرِي عَقِبَ قَوْلٍ كَقَوْلِ الرَّسُولِ لِلْمَيِّتِ: " قُمْ بِإِذْنِ اللهِ "، أَوْ فِعْلٍ كَإِلْقَاءِ مُوسَى لِعَصَاهُ أَوْ ضَرْبِهِ الْبَحْرَ بِهَا،

<<  <  ج: ص:  >  >>