للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ لَمْ تَسْلَمْ مِنْ وُجُودِ أُنَاسٍ قَدِ اتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْغُلُوِّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَعَ هَذِهِ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَعَ تَحْذِيرِ النَّبِيِّ لِلْأُمَّةِ مِنِ اتِّبَاعِ سَنَنِهِمْ، فَكَيْفَ لَوْ لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ النُّصُوصُ بِهَذِهِ الصَّرَاحَةِ وَهَذَا التَّحْذِيرِ؟ .

نَعَمْ إِنَّ مِنَ النَّاسِ الرَّاسِخِينَ فِي التَّوْحِيدِ مَنْ يَحْمِلُهُ حُبُّ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ - عَلَى تَقْوِيَةِ كُلِّ قَوْلٍ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ نَجَاةُ أَبَوَيْهِ الطَّاهِرَيْنِ أَوْ جَمِيعِ أُصُولِهِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ هَذَا بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ فِي ذَلِكَ تَحْرِيفٌ لِكَلَامِهِ أَوْ كَلَامِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَا إِخْلَالَ بِمَقَاصِدِ الرِّسَالَةِ وَأُصُولِ الدِّينِ، فَإِنَّ الْحُبَّ الصَّحِيحَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الَّذِي هُوَ آيَةُ الْإِيمَانِ إِنَّمَا يَثْبُتُ وَيَتَحَقَّقُ بِالِاتِّبَاعِ وَإِقَامَةِ الدِّينِ، وَمَنْ يُرَجِّحُ قَرَابَةَ الرَّسُولِ عَلَى رِسَالَتِهِ فَإِنَّمَا حُبُّهُ لَهُ وَلَهُمْ حُبُّ هَوًى لِلْعَصَبِيَّةِ وَالنَّسَبِ، لَا حُبُّ هُدًى بِاتِّبَاعِ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ أَوِ اسْتَحَبَّ، وَقَدْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ أَشَدَّ النَّاسِ حُبًّا لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَصَبِيَّةً لِقَرَابَتِهِ، لَا اتِّبَاعًا لِرِسَالَتِهِ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ آمِنَ بِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ مِنْ تَفْضِيلِ إِيمَانِهِ عَلَى إِيمَانِ وَالِدِهِ، وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَعْظَمَ وَأَقْوَى ظَهِيرٍ وَمَانِعٍ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَعْدَائِهِ لِقَرَابَتِهِ، قَدْ أَبَى أَنْ يُقِرَّ عَيْنَهُ عِنْدَ الْوَفَاةِ بِالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ".

وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ بَعْضَ الْغُلَاةِ مِنَ الْقَوْلِ بِإِسْلَامِهِ، وَلَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَخِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَوَاللهِ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ". وَرَوَيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ، فَقَالَ: " لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ " فَهَذَا رَجَاءٌ وَالَّذِي قَبْلَهُ خَبَرٌ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٧٤: ٤٨) وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (٢١: ٢٨) أَيْ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَبِحَدِيثِ عَدَمِ نَفْعِ شَفَاعَةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ - إِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى ذَلِكَ شَفَاعَةً - وَأَحَادِيثَ أُخْرَى.

وَقَدْ يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُلَمَاءِ فِي مِثْلِهِ بِأَنَّ هَذَا الرَّجَاءَ لَيْسَ اعْتِقَادًا جَازِمًا وَلَا خَبَرًا عَنِ اللهِ تَعَالَى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ إِعْلَامِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِمَا ذُكَرَ فِي الْآيَاتِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْعَبَّاسِ ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ، وَلَكِنَّهُ بِمَعْنَاهَا. وَيُشِيرُ كَلَامُ الْحَافِظِ بْنِ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْفَتْحِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِشْكَالِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الشَّفَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ هِيَ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ تَأْثِيرِ الشُّفَعَاءِ فِي إِرَادَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَتَأْثِيرِ الشُّفَعَاءِ عِنْدَ الْمُلُوكِ وَعُظَمَاءِ الدُّنْيَا، وَبِأَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ الْكَافِرَ بِإِنْقَاذِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>