للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْ بَقَايَا الْعَمَالِقَةِ، وَأَنَّهُمْ هَاجَرُوا مِنَ الْعِرَاقِ بَعْدَ سُقُوطِ دَوْلَةِ الْحَمُورَابِيِّينَ، وَتَفَرَّقُوا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ أَنْشَئُوا دَوْلَةً فِي الشَّمَالِ مِنْهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَالَ: إِنَّنَا نَبَطٌ مِنْ كُوثَى، وَكُوثَى بَلَدُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا يُحْفَظُ عَنِ الْعَرَبِ. وَمُرَادُ الْحَبْرَيْنِ أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ النَّبَطَ مِنْ قَوْمِهِ، وَفِيهِ إِنْكَارُ احْتِقَارِهِمْ لِنَسَبِهِمْ أَوْ ضَعْفِ لُغَتِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ مُرَادَهُمَا بِهِ التَّوَاضُعُ وَذَمُّ التَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلْقُهُمَا، أَيْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) (٧: ١٨٥) وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ آيَاتُهُمَا، وَعَنْهُمَا وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالْبِحَارُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَاهُ مَا وَرَاءَ مَسَارِحِ الْأَبْصَارِ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى انْتَهَى بَصَرُهُ إِلَى الْعَرْشِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَرَاهُ خَفَايَا أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَمَعَاصِيهِمْ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الْأَخِيرَةِ حُجَّةً مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَإِنَّمَا اسْتَنْبَطُوهَا فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ إِسْنَادِ الْإِرَاءَةِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عِنَايَةٍ خَاصَّةٍ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ مِمَّا رَوَاهُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَاهُ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا فِيهِمَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالشَّجَرِ

وَالدَّوَابِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِهِ فِيهِمَا، وَجَلَّى لَهُ بَوَاطِنَ الْأُمُورِ وَظَوَاهِرِهَا، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِهِدَايَتِهِ إِيَّاهُ إِلَى وُجُوهِ الْحُجَّةِ فِيهَا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَعَلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحِمَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيلُ الْإِرَاءَةِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ.

أَمَّا التَّعْلِيلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: وَلِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ الرَّاسِخِينَ فِيهِ أَرَيْنَاهُ مَا أَرَيْنَا، وَبَصَّرْنَاهُ مِنْ أَسْرَارِ الْمَلَكُوتِ مَا بَصَّرْنَا، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى تَعْلِيلِ حَذْفٍ؛ لِتَغُوصَ الْأَذْهَانُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ مِنْ قَرَائِنِ الْحَالِ، وَأُسْلُوبِ الْمَقَالِ، أَيْ نُرِيهُ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ سُنَنَنَا فِي خَلْقِنَا، وَحُكْمَنَا فِي تَدْبِيرِ مُلْكِنَا، وَآيَاتِنَا الدَّالَّةَ عَلَى رُبُوبِيَّتِنَا وَأُلُوهِيَّتِنَا؛ لِيُقِيمَ بِهَا الْحُجَّةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الضَّالِّينَ، وَلِيَكُونَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ مِنَ الْوَاقِفِينَ عَلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، وَهُوَ مِنَ الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ. وَالْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْأَمَارَاتِ، وَالدَّلَائِلِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ - دُونَ الْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ سُكُونُ الْفَهْمِ مَعَ ثَبَاتِ الْحُكْمِ، وَأَنَّهُ مِنْ صِفَةِ الْعِلْمِ فَوْقَ الْمَعْرِفَةِ وَالدِّرَايَةِ، وَبِذَلِكَ جَمَعَ إِبْرَاهِيمُ بَيْنَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ وَالْعِلْمِ اللَّدُنِيِّ.

وَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وَجْهِ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) إِلَخْ. قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْجَنِّ سَتْرُ الشَّيْءِ عَنِ الْحَاسَّةِ، يُقَالُ: جَنَّهُ اللَّيْلُ، وَأَجَنَّهُ، وَأَجَنَّ عَلَيْهِ. فَجَنَّهُ: سَتَرَهُ، وَأَجَنَّهُ: جَعَلَ لَهُ مَا يَجِنُّهُ، كَقَوْلِكَ: قَبَرْتُهُ، وَأَقْبَرْتُهُ، وَسَقَيْتُهُ، وَأَسْقَيْتُهُ، وَجَنَّ عَلَيْهِ كَذَا سَتَرَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَمِنْهُ الْجِنُّ وَالْجِنَّةُ - بِالْكَسْرِ - وَالْجُنَّةِ بِالضَّمِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>