أَحَاطَ الْقَضَاءُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِالْيَهُودِ فَلَمْ يَدَعْ مِنْهُمْ حَاضِرًا وَلَا غَائِبًا، فَأَلْزَمَ
الذُّلَّ بَاطِنَهُمْ، وَكَسَا بِالْمَسْكِّنَةِ ظَاهِرَهُمْ، وَبَوَّأَهُمْ مَنَازِلَ غَضَبِهِ، وَجَعَلَ أَرْوَاحَهُمْ مَسَاقِطَ نِقَمِهِ، فَذَلِكَ اللهُ الَّذِي يَقُولُ: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) سَجَّلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَاسْتَشْعَرَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ كُفْرٍ بِآيَاتِ اللهِ، وَانْصِرَافٍ عَنِ الْعِبْرَةِ، وَاسْتِعْصَاءٍ عَلَى الْمَوْعِظَةِ، وَخُرُوجٍ عَنْ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَاعْتِدَاءٍ عَلَى أَحْكَامِهَا، اقْتَرَفَ ذَلِكَ سَلَفُهُمْ، وَتَبِعَهُمْ عَلَيْهِ خَلَفُهُمْ، فَحُقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ، فَلَوْ قَرَّ الْخُطَّابُ عِنْدَهَا، وَلَمْ يَتْلُهَا مِنْ رَحْمَتِهِ مَا بَعْدَهَا، لَحُقَّ عَلَى كُلِّ يَهُودِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَنْ يَيْأَسَ، وَأَنْ لَا يَبْقَى عِنْدَهُ لِلْأَمَلِ فِي عَفْوِ اللهِ مُتَنَفَّسٌ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْقُنُوطُ لَازِمًا لِكُلِّ عَاصٍ، قَابِضًا عَلَى نَفْسِ كُلِّ مُعْتَدٍ، لَا فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ سَبَبَ مَا نَزَلَ بِالْيَهُودِ إِنَّمَا هُوَ عِصْيَانُهُمْ وَاعْتِدَاؤُهُمْ حُدُودَ مَا شَرَعَ اللهُ لَهُمْ، وَسُنَنُ اللهِ فِي خَلْقِهِ لَا تَتَغَيَّرُ وَأَحْكَامُهُ الْعَادِلَةُ فِيهِمْ لَا تَتَبَدَّلُ؛ لِهَذَا جَاءَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) . . . إِلَخْ، بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ مُتَضَمِّنًا لِجَمِيعِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَدْيِ نَبِيٍّ سَابِقٍ وَانْتَسَبَ إِلَى شَرِيعَةٍ سَمَاوِيَّةٍ مَاضِيَةٍ؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ السَّابِقَ، وَإِنْ حُكِيَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَطَأِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، لَمْ يُصِبْهُمْ إِلَّا لِجَرِيمَةٍ قَدْ تَشْمَلُ الشُّعُوبَ عَامَّةً، وَهِيَ الْفُسُوقُ عَنْ أَوَامِرِ اللهِ وَانْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ، فَكُلُّ مَنْ أَجْرَمَ كَمَا أَجْرَمُوا سَقَطَ عَلَيْهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ مَا سَقَطَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَنَّ اللهَ جَلَّ شَأْنُهُ لَمْ يَأْخُذْهُمْ بِمَا أَخَذَهُمْ لِأَمْرٍ يَخْتَصُّ بِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ أَوْ مِنْ مِلَّةِ يَهُودٍ، بَلْ (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) .
وَأَمَّا أَنْسَابُ الشُّعُوبِ وَمَا تَدِينُ بِهِ مِنْ دِينٍ وَمَا تَتَّخِذُهُ مِنْ مِلَّةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي رِضَاءِ اللهِ وَلَا غَضَبِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ رِفْعَةُ شَأْنِ قَوْمٍ وَلَا ضِعَتُهُمْ، بَلْ عِمَادُ الْفَلَاحِ وَوَسِيلَةِ الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنَّمَا هُوَ صِدْقُ الْإِيمَانِ بِاللهِ - تَعَالَى -، بِأَنْ يَكُونَ التَّصْدِيقُ بِهِ سُطُوعًا عَلَى النَّفْسِ مِنْ مَشْرِقِ الْبُرْهَانِ، أَوْ جَيَشَانًا فِي الْقَلْبِ مِنْ عَيْنِ الْوِجْدَانِ، فَيَكُونُ الِاعْتِقَادُ بِوُجُودِهِ وَصِفَاتِهِ خَالِيًا مَنْ شَوْبِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَالْيَقِينُ فِي نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إِلَيْهِ خَالِصًا مِنْ وَسَاوِسِ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ، وَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ قَدِ ارْتَقَى بِإِيمَانِهِ مُرْتَقًى يَشْعُرُ فِيهِ بِالْجَلَالِ الْإِلَهِيِّ.
فَإِذَا رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى الْجَنَابِ الْأَرْفَعِ أَغْضَى هَيْبَةً وَأَطْرَقَ إِلَى أَرْضِ الْعُبُودِيَّةِ خُشُوعًا، وَإِذَا أَطْلَقَ نَظَرَهُ
فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، مِمَّا سَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِ، شَعَرَ فِي نَفْسِهِ عِزَّةً بِاللهِ، وَوَجَدَ فِيهَا قُوَّةً تَصْرِفُهُ بِالْحَقِّ فِيمَا يَقَعُ تَحْتَ قُوَاهُ. لَا يَعْدُو حَدًّا ضُرِبَ لَهُ، وَلَا يَقِفُ دُونَ غَايَةٍ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا، فَيَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ وَحْدَهُ، سَيِّدًا لِكُلِّ شَيْءٍ بَعْدَهُ.
كَتَبَ مَا تَقَدَّمَ الْأُسْتَاذُ بِقَلَمِهِ؛ إِذِ اقْتَرَحْتُ أَنْ يَكْتُبَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ كَمَا قَرَّرَهُ فِي دَرْسِهِ وَإِنَّنِي أُتِمُّهُ عَلَى الْمَنْهَجِ الَّذِي جَرَيْتُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute