للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَشَاءُ بِالْوَهْبِيِّ مِنْهَا، ثُمَّ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ يُؤْتِيهِمْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ صَاحِبِ الدَّرَجَةِ الْكَسْبِيَّةِ إِلَى مَا تَرْتَقِي بِهِ دَرَجَتُهُ، وَبِصَرْفِ مَوَانِعِ هَذَا الِارْتِقَاءِ عَنْهُ، وَبِإِيتَاءِ ذِي الدَّرَجَةِ الْوَهْبِيَّةِ (النُّبُوَّةِ) مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الْمَنَاقِبِ وَالْآيَاتِ الْمُنَزَّلِيَّهِ وَالتَّكْوِينِيَّةِ وَكَثْرَةِ إِهْدَاءِ الْخَلْقِ بِهَا (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) ٢: ٢٥٣ وَجُمْلَةُ (نَرْفَعُ) اسْتِئْنَافِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ أَنَّ مَا آتَى اللهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْحُجَّةِ كَانَ بِاخْتِصَاصِهِ بِأَعْلَى دَرَجَاتِ النُّبُوَّةِ الْوَهْبِيَّةِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنْ دَرَجَاتِ الدَّعْوَةِ الْكَسْبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ مُبَيِّنٌ لِمُنْشِئِهِ وَمُتَعَلِّقِهِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ وَضَعَ فِيهِ اسْمَ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَوْضِعَ نُونِ الْعَظَمَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، تَذْكِيرًا مِنْهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِ وَتَفْضِيلِهِ إِيَّاهُ، بِرَفْعِهِ دَرَجَاتٍ عَلَى جَمِيعِ رُسُلِ اللهِ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُ إِنَّ رَبَّكَ الَّذِي رَبَّاكَ وَآوَاكَ، وَعَلَّمَكَ وَهَدَاكَ، وَرَفَعَ ذِكْرَكَ بِجُودِهِ وَكَرَمِهِ، وَجَعَلَكَ خَاتَمَ رُسُلِهِ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، حَكِيمٌ فِي فِعْلِهِ

وَصُنْعِهِ، عَلِيمٌ بِشُئُونِ خَلْقِهِ وَسِيَاسَةِ عِبَادِهِ، وَسَيُرِيكَ شَاهَدَ ذَلِكَ عِيَانًا فِي سِيرَتِكَ مَعَ قَوْمِكَ، كَمَا أَرَاكَهُ بَيَانًا فِيمَا كَانَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ.

وَقَدْ زَعَمَ الرَّازِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعَارِفَ الْأَنْبِيَاءِ بِرَبِّهِمُ اسْتِدْلَالِيَّةٌ لَا ضَرُورِيَّةٌ، وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ ; إِذْ لَوْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمَا عَدَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَاتِ بُطْلَانُ الْحَصْرِ فِي هَذَيْنَ الزَّعْمَيْنِ وَبُطْلَانُ غَيْرِهِ مِنْ مَزَاعِمِهِ النَّظَرِيةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَالْحَقُّ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ تَعَالَى لَا تَحْصُلُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ إِلَّا بِتَعْلِيمِ الْوَحْيِ وَعِلْمُ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ ضَرُورِيٌّ لَا نَظَرِيٌّ، فَقَدْ عَلَّمَهُمْ بِهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ بِنَظَرِهِمْ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَعَلَّمَهُمْ مَا يُثْبِتُونَهَا بِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالدَّلَائِلِ، وَلَكِنْ مِنْ طُرُقِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى مَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ، وَمِنِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ إِعْلَامِهِمْ بِهِ، مَا هُوَ كَسْبِيٌّ لَهُمْ يُؤَدُّونَهُ بِنَظَرِهِمْ وَاسْتِدْلَالِهِمْ، وَقَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى نَظَرِيَّاتِ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَعُلَمَاءِ الْكَلَامِ، فَوَجَدْنَا أَكْثَرَهَا فِي بَابِ الْإِلَهِيَّاتِ أَوْهَامًا، وَقَدِ اعْتَرَفَ الرَّازِيُّ نَفْسُهُ بِذَلِكَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَنَدِمَ عَلَى مَا فَرَّطَ فِيهِ، وَلَنَا بَيْتَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، قُلْنَاهُمَا فِي أَيَّامِ تَحْصِيلِ عِلْمِ الْكَلَامِ:

يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ ... جَاهِدٌ فِي الْفَلْسَفَهْ.

مَاذَا يَرُوقُكَ مِنْ تَعَلُّـ ... ـمِهَا وَأَكْثَرُهَا سَفَهْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>