عَلَى حَسَبِ خُصُوصِيَّتِهَا، فَكُلُّ مَنْ أُوتِيَ الْكِتَابَ أُوتِيَ الْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، وَكُلُّ مَنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ مِمَّنْ ذَكَرَ كَانَ نَبِيًّا وَمَا كَلُّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ كَانَ حَاكِمًا وَلَا صَاحِبَ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَهَذِهِ مَرَاتِبُ الْفَضْلِ بَيْنَهُمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا اسْتَعْمَلْنَا الْحُكْمَ بِمَعْنَيَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ
فِي الْمُشْتَرِكِ كَانَ عَلَى التَّوْزِيعِ فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أُوتِيَ الْحُكْمَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْفَهْمِ، وَمَا أُوتِيَهُ إِلَّا بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا تَقَرَّرَ وَتَكَرَّرَ.
وَأَمَّا إِذَا جَرَيْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ هُمْ أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ وَمَنْ ذُكِرَ مِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ فَالْحَاجَةُ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَقْوَى، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ حَاكِمٍ، وَبَعْضَهُمْ كَانَ عَالِمًا حَاكِمًا غَيْرَ نَبِيٍّ، وَبَعْضَهُمْ عَالِمًا حَكِيمًا غَيْرَ حَاكِمٍ وَلَا نَبِيٍّ، وَيَكُونُ إِيتَاءُ الْكِتَابِ أَعَمَّ مِنْ إِيحَائِهِ، فَإِنَّ أُمَّةَ الرَّسُولِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ بِإِيحَائِهِ إِلَيْهِ يُقَالُ إِنَّهَا قَدْ أُعْطِيَتِ الْكِتَابَ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ، بَلْ يُقَالُ أَيْضًا: إِنَّ الْكِتَابَ أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَمَا نَصَّ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ - فَالْإِنْزَالُ عَلَى الرُّسُلِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَحْيِ إِلَيْهِمْ، وَالْإِنْزَالُ عَلَى الْأُمَمِ عِبَارَةٌ عَنْ مُخَاطَبَتِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِمْ لِهِدَايَتِهِمْ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ٤٥: ١٦ الْآيَةَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا وَجْهَ الْعِبْرَةِ بِمَا ذَكَرَ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) أَيْ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ - الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ - هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَدْ خُصُّوا بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهَا قَبْلَ غَيْرِهِمْ، إِذْ أُوتِيَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ رَسُولٌ مِنْهُمْ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِأَمْرِ رِعَايَتِهَا، وَوَفَّقْنَا لِلْإِيمَانِ بِهَا وَتَوَلِّي نَصْرَ الدَّاعِي إِلَيْهَا، قَوْمًا كِرَامًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ سَيُؤْمِنُ عِنْدَمَا يُدْعَى، أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ) يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ. يَقُولُ: إِنْ يَكْفُرُوا بِالْقُرْآنِ - أَيِ الْجَامِعِ لِمَا ذُكِرَ كُلِّهِ لِرَسُولِ اللهِ - (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَالْأَنْصَارِ انْتَهَى. وَرَوَى مَثَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ تَفْسِيرُ مَنْ يَكْفُرُ بِهَا بِأَهْلِ مَكَّةَ كَفَّارِ قُرَيْشٍ، وَتَفْسِيرُ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا بِالْأَنْبِيَاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى هُنَا. وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ تَفْسِيرُ الْمُوَكِّلِينَ بِهَا بِالْمَلَائِكَةُ. هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ، الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الدَّرِّ الْمَنْثُورِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى
أَنَّ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطْلَقًا وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَقِيلَ: الْفُرْسُ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُمْ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَدْ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهَا، وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِهَا وَكَانُوا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي مُقَدِّمَةِ الْأَنْصَارِ، فِي كُلِّ عَمَلٍ وَكُلِّ جِهَادٍ، وَلَكِنَّ الْأَنْصَارَ مَقْصُودُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute