للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَصْلِ النُّبُوَّةِ لِأَجْلِ هَفْوَتِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ " لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ " وَفِيهِ " وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الصِّحَاحِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ عَدَمُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ لَا مَنْعُ مُطْلَقِ التَّفْضِيلِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْ خَاتَمَ رُسُلِهِ بِالِاقْتِدَاءِ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَقْتَدِي بِهُدَاهُمْ إِلَيْهِ فِي سِيرَتِهِمْ، سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ، وَمَا امْتَازَ فِي الْكَمَالِ فِيهِ بَعْضُهُمْ، كَمَا امْتَازَ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَآلُ دَاوُدَ بِالشُّكْرِ، وَيُوسُفُ وَأَيُّوبُ وَإِسْمَاعِيلُ بِالصَّبْرِ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسُ بِالْقَنَاعَةِ وَالزُّهْدِ، وَمُوسَى وَهَارُونُ بِالشَّجَاعَةِ، وَشَدَّةِ الْعَزِيمَةِ فِي النُّهُوضِ بِالْحَقِّ. فَاللهُ تَعَالَى قَدْ هَدَى كُلَّ

نَبِيٍّ رَفَعَهُ دَرَجَاتٍ فِي الْكَمَالِ، وَجَعَلَ دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ فَوْقَ بَعْضٍ، ثُمَّ أَوْحَى إِلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ خُلَاصَةَ سِيَرِ أَشْهَرِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِي سَائِرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهُدَاهُمْ ذَاكَ، وَهَذِهِ هِيَ الْحِكْمَةُ الْعُلْيَا لِذِكْرِ قِصَصِهِمْ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ كَانَ مُهْتَدِيًا بِهُدَاهُمْ كُلِّهِمْ، وَبِهَذَا كَانَتْ فَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ الْكَسْبِيَّةُ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ مَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ ; لِأَنَّهُ اقْتَدَى بِهَا كُلِّهَا فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِيهِمْ، إِلَى مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ دُونَهُمْ ; وَلِذَلِكَ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى لَهُ بِمَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَالَ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ٦٨: ٤ وَأَمَّا فَضَائِلُهُ وَخَصَائِصُهُ الْوَهْبِيَّةُ فَأَمْرُ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ فِيهَا أَظْهَرُ، وَأَعْظَمُهَا عُمُومُ الْبَعْثَةِ، وَخَتْمُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَإِنَّمَا كَمَالُ الْأَشْيَاءِ فِي خَوَاتِيمِهَا، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: (اقْتَدِهْ) لِلسَّكْتِ أَثْبَتَهَا فِي الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَحَذَفَهَا فِي الْوَصْلِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ، وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ الِاخْتِلَاسَ، وَلَهُمْ فِي تَخْرِيجِهَا وُجُوهٌ.

بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ مَا بِهِ الِاقْتِدَاءُ فَرَأَيْتُ الرَّازِيَّ لَخَصَّهَا بِقَوْلِهِ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي الْأَمْرِ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ - أَيْ بِاللهِ تَعَالَى - فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَسَائِرِ الْعَقْلِيَّاتِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ الْكَامِلَةِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى السُّفَهَاءِ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ كَانَتِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا يَلْزَمُنَا - ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ وَجِيزَةٍ أَنَّ الْمُرَادَ: اقْتَدِ بِهِمْ فِي نَفْيِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَتَحَمُّلِ سَفَاهَاتِ الْجُهَّالِ فِي هَذَا الْبَابِ (قَالَ) : وَقَالَ آخَرُونَ اللَّفْظُ مُطْلَقٌ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكُلِّ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ الْمُنْفَصِلُ اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>