الْهِدَايَةِ وَالتَّبْلِيغِ الْإِلَهِيِّ مُتَعَدِّدَةٌ. وَكَانَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِوَحْيِ الرِّسَالَةِ لَوْلَا مَا عَارَضَهُ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ وَآيَةِ (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) وَمَا يُؤَيِّدُهَا مِمَّا تَقَدَّمَ، وَمِنِ احْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ هِدَايَةِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي فَطَرَ آدَمَ عَلَيْهَا وَنَشَأَتْ عَلَيْهَا ذُرِّيَّتُهُ إِلَى زَمَنِ نُوحٍ، إِذِ اخْتَلَفَ النَّاسُ وَحَدَثَتْ فِيهِمُ الْوَثَنِيَّةُ فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الرُّسُلَ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ الْمُؤَيَّدِينَ مِنْهُ بِالْآيَاتِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ٢: ٢١٣ الْآيَةَ. فَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ مُفَصَّلَةٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ، قَالَ الرُّوَاةُ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ (أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ) " كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا " إِلَخْ. وَرَوَوْا عَنْ أُبَيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ أَيْضًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى آيَاتٌ أُخْرَى. وَرَوَوْا عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْهُدَى وَعَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَبَعَثَ اللهُ نُوحًا وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَبُعِثَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ مِنَ النَّاسِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ؟ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ اهـ. مِنَ الدَّرِّ الْمَنْثُورِ، وَمِنْهُ يَعْلَمُ الْمُخَرِّجُونَ
لِهَذِهِ الرِّوَيَاتِ. فَهَذَا قَتَادَةُ مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ يَقُولُ بِأَنَّ نُوحًا أَوَّلُ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ. وَيُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) ٣٠: ٣٠ الْآيَةَ - كَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا النَّاطِقِ بِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ يُولَدُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى الْمِلَّةِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ آدَمَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ وَبَنِيهِ حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ وَأَعْطَاهُمُ الْمَالَ حَلَالًا لَا حَرَامَ فِيهِ فَجَعَلُوا مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ حَرَامًا وَحَلَالًا " وَفِي مَعْنَاهُ آثَارٌ. وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَطَرَ آدَمَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَشُكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَزَادَهُ هُدَى بِمَا كَانَ يُلْهِمُهُ إِيَّاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَبِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ اجْتِهَادٌ كَمَا قِيلَ فِي عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْغَارِ قَبْلَ الْبَعْثِ. وَقَدْ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ إِرْشَادُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَلِأَوْلَادِهِ، فَقَدْ كَانُوا بِطَهَارَةِ فِطْرَتِهِمْ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ كَمَا وَرَدَ فِي تَعْلِيمِهِمْ إِيَّاهُمْ تَجْهِيزَ أَبِيهِمْ وَدَفْنِهِ حِينَ تُوُفِّيَ، وَلَسْنَا بِصَدَدِ تَمْحِيصِ أَمْثَالِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَلَكِنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute