للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَطْمَعَ اللهُ - تَعَالَى - بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي رَحْمَتِهِ بَعْدَمَا قَرَّعَهُمْ بِالنُّذُرِ الَّتِي تَكَادُ تُوقِعُ الْيَأْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ وَلِسَائِرِ النَّاسِ أَنَّ الْمَنْفَذَ إِلَى هَذَا الطَّمَعِ، بَلِ الْبَابِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى هَذَا الرَّجَاءِ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعَثَ لِتَقْرِيرِهِمَا الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَهُمَا الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ الْيَقِينِيُّ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَإِشْرَاكُ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذَا الْحُكْمِ لَا يَقْضِي بِانْتِهَاءِ السِّيَاقِ، بَلْ لَا يَزَالُ الْكَلَامُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ ذَلِكَ الْإِطْمَاعَ بِالتَّذْكِيرِ بِبَعْضِ الْوَقَائِعِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا فِيهَا الْعُقُوبَةَ فَحَالَتْ دُونَ وُقُوعِهَا الرَّحْمَةُ فَقَالَ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) وَهُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) فَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ قِصَّةً وَهِيَ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - ظَلَّلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالطُّورِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الْمَعْرُوفُ وَخَوَّفَهُمْ بِرَفْعِهِ فَوْقَهُمْ؛ لِيُذْعِنُوا وَيُؤْمِنُوا، ثُمَّ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إِكْرَاهٌ عَلَى الْإِيمَانِ وَإِلْجَاءٌ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا: أَنَّ مَا يُفْعَلُ بِالْإِكْرَاهِ يَعُودُ اخْتِيَارِيًّا بَعْدَ زَوَالِ مَا بِهِ الْإِكْرَاهُ، وَمِنْهَا: أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِلْجَاءِ وَالْإِكْرَاهِ كَانَ جَائِزًا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَيَزِيدُ مَنْ قَالَ هَذَا: أَنَّ نَفْيَ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ الْخَاصِّ بِالْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (٢: ٢٥٦) وَقَوْلِهِ: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (١٠: ٩٩)

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي فَهْمِ كِتَابِ اللهِ إِلَى غَيْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِأُسْلُوبِهِ الْفَصِيحِ، فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ فِي فَهْمِهِ إِلَى إِضَافَاتٍ وَلَا مُلْحَقَاتٍ، وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا مَسْأَلَةَ رَفْعِ الطُّورِ فَوْقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٧: ١٧١) وَالنَّتْقُ: الزَّعْزَعَةُ وَالْهَزُّ وَالْجَذْبُ وَالنَّفْضُ، وَنَتَقَ الشَّيْءَ يَنْتِقُهُ وَيَنْتُقُهُ - مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَنَصَرَ - نَتْقًا، جَذَبَهُ وَاقْتَلَعَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ بِضَرْبٍ مِنَ الزِّلْزَالِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالنَّتْقِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الزَّعْزَعَةِ

وَالنَّفْضِ، وَالْمَفْهُومُ مَنْ أَخْذِ الْمِيثَاقِ أَنَّهُمْ قَبِلُوا الْإِيمَانَ وَعَاهَدُوا مُوسَى عَلَيْهِ. فَرَفْعُ الطُّورِ وَظَنُّهُمْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ، مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي رَأَوْهَا بَعْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ، كَانَ لِأَجْلِ أَخْذِ مَا أُوتُوهُ مِنَ الْكِتَابِ بِقُوَّةٍ وَاجْتِهَادٍ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْآيَاتِ تُقَوِّي الْإِيمَانَ، وَتُحَرِّكُ الشُّعُورَ وَالْوِجْدَانَ؛ وَلِذَلِكَ خَاطَبَهُمْ عِنْدَ رُؤْيَةِ تِلْكَ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) أَيْ تَمَسَّكُوا بِهِ وَاعْمَلُوا بِجِدٍّ وَنَشَاطٍ، لَا يُلَابِسُ نُفُوسَكُمْ فِيهِ ضَعْفٌ، وَلَا يَصْحَبُهَا وَهَنٌ وَلَا وَهْمٌ، ثُمَّ قَالَ: (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) أَيْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الْعِلْمَ رَاسِخًا فِي النَّفْسِ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهَا. وَيُؤْثَرُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَهْتِفُ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ. فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا يَحْضُرُ فِي النَّفْسِ مُجْمَلًا غَيْرَ سَالِمٍ مِنْ إِبْهَامٍ وَغُمُوضٍ، فَإِذَا بَرَزَ لِلْوُجُودِ بِالْعَمَلِ صَارَ تَفْصِيلِيًّا جَلِيًّا، ثُمَّ يَنْقَلِبُ النَّظَرِيُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>