للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَيْنَ الْبَشَرِ، وَعَدَمِ جَعْلِ تَفَرُّقِهِمْ إِلَى شُعُوبٍ وَقَبَائِلَ مَدْعَاةً لِلتَّعَادِي وَالتَّقَاتُلِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ.

قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو " الْمُسْتَقِرُّ " بِكَسْرِ الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ، فَرَوَى جُمْهُورُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُسْتَقَرُّ - بِالْفَتْحِ - مَا كَانَ فِي الرَّحِمِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا اسْتُودِعَ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَالدَّوَابِّ - وَفِي لَفْظٍ: الْمُسْتَقَرُّ مَا فِي الرَّحِمِ وَعَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَبَطْنِهَا مِمَّا هُوَ حَيٌّ وَمِمَّا هُوَ قَدْ مَاتَ - وَفِي لَفْظٍ: الْمُسْتَقَرُّ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا كَانَ فِي الصُّلْبِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ: " مُسْتَقَرُّهَا " فِي الدُّنْيَا " وَمُسْتَوْدَعَهَا " فِي الْآخِرَةِ، أَيِ النَّفْسِ. وَفِي رِوَايَةِ عَنْهُ: الْمُسْتَقَرُّ الرَّحِمُ، وَالْمُسْتَوْدَعُ الْمَكَانُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ قَوْلَ الْحَسَنِ مُفَسِّرًا

لَهُ فَقَالَ: الْمُسْتَقَرُّ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ سَعِيدًا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ السَّعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ الشَّقَاوَةُ، وَلَا تَبْدِيلَ فِي أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَمَّا قَبْلَ الْمَوْتِ فَالْأَحْوَالُ مُتَبَدِّلَةٌ، فَالْكَافِرُ قَدْ يَنْقَلِبُ مُؤْمِنًا وَالزِّنْدِيقُ قَدْ يَنْقَلِبُ صَدِّيقًا، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ لِكَوْنِهَا عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ لَا يَبْعُدُ تَشْبِيهُهَا بِالْوَدِيعَةِ. وَذَكَرَ لِلْأَصَمِّ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ مَنْ خُلِقَ مِنَ النَّفْسِ الْأُولَى وَدَخَلَ الدُّنْيَا وَاسْتَقَرَّ فِيهَا، وَالْمُسْتَوْدَعُ الَّذِي لَمَّا يُخْلَقْ بَعْدُ. وَثَانِيهِمَا: الْمُسْتَقَرُّ مَنِ اسْتَقَرَّ فِي قَرَارِ الدُّنْيَا، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَنْ فِي الْقُبُورِ حَتَّى يُبْعَثَ. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ وَجْهُ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ كَسْرِ الْقَافِ أَوِ الْمُسْتَقَرِّ بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرًا وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ التَّقْدِيرَ - فَمِنْكُمْ مُسْتَقَرٌّ ذَكَرٌ وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ أُنْثَى، فَعَبَّرَ عَنِ الذَّكَرِ بِالْمُسْتَقَرِّ ; لِأَنَّ النُّطْفَةَ تَتَوَلَّدُ فِي صُلْبِهِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأُنْثَى بِالْمُسْتَوْدَعِ لِأَنَّ الرَّحِمَ شِبْهَةٌ بِالْمُسْتَوْدَعِ. وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنَ الشَّاعِرِ.

وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْآبَاءِ أَبْنَاءُ.

وَأَقُولُ: لَيْسَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مَا نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ - كَدَأْبِنَا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ - إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ٢٢: ٥ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) ١١: ٦ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " مُسْتَقَرُّهَا " حَيْثُ تَأَوِي، " وَمُسْتَوْدَعُهَا " حَيْثُ تَمُوتُ. وَقَالَ: " مُسْتَقَرُّهَا " فِي الْأَرْحَامِ، " وَمُسْتَوْدَعُهَا " حَيْثُ تَمُوتُ. فَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْتَقَرِّ - بِفَتْحِ الْقَافِ - الرَّحِمُ، وَالْمُسْتَوْدَعِ الْقَبْرُ، وَأَمَّا الْمُسْتَقِرُّ - بِكَسْرِ الْقَافِ - فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْ يَطُولُ عُمُرُهُ فِي الدُّنْيَا، كَأَنَّهُ قَالَ: فَمِنْكُمْ مُسْتَقِرٌّ فِي الدُّنْيَا يُعَمَّرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>