للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْآيَاتِ حَالًا فَحَالًا هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الشُّبْهَةَ لِلْقَوْمِ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ نَتِيجَةُ مُدَارَسَةٍ وَمُذَاكَرَةٍ مَعَ آخَرِينَ. وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ رَأْيٌ جَدَلِيٌّ مُلَفَّقٌ لَا يَصِحُّ بِهِ فِي جُمْلَتِهِ نَقْلٌ، فَالْعَرَبُ لَمْ تَكُنْ تَعْتَقِدُ أَنَّ مُوسَى جَاءَ بِالتَّوْرَاةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَلَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا تِلْكَ الْوَصَايَا الْعَشْرُ فَقَطْ، وَسَائِرُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ نَزَلَتْ مُتَفَرِّقَةً بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فِي أَمْكِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْقُرْآنِ.

وَتِلْكَ الْوَصَايَا لَا تَبْلُغُ عُشْرَ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) الَّتِي نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا، بَلْ لَا تَزِيدُ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ إِلَّا قَلِيلًا وَلَعَلَّ كَثْرَةَ مَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) وَلِئَلَّا يَقُولُوا دَرَسْتَ، فَإِنَّ الْمَجِيءَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ الْمُخْتَلِفَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُنْصِفَ مِنْ دَعْوَى اقْتِبَاسِ الْقُرْآنِ بِالْمُدَارَسَةِ مَعَ آخَرِينَ، وَأَيْنَ هَؤَلَاءِ الْمُدَارِسُونَ؟ وَلِمَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا مِنَ الرَّسُولِ نَفْسِهِ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَالْبَلَاغَةِ الْمُعْجِزَةِ؟ كَلَّا إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ جُحُودًا وَمُكَابَرَةً، وَرُبَّمَا نَطَقَ بِهِ بَعْضُهُمْ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ فِي مُخَالَفَتِهِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا وَكَوْنِهِ احْتَجَّ عَلَى جُمْهُورِهِمْ فِي ذَلِكَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ١٠: ١٦ وَقَوْلِهِ (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) ٢٩: ٤٨ وَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرْتَابُوا وَإِنَّمَا هِيَ الْمُكَابَرَةُ.

(اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ أَنَّ النَّاسَ فَرِيقَانِ، فَرِيقٌ قَدْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ لِلِاهْتِدَاءِ بِتِلْكَ الْبَصَائِرِ الْمُنَزَّلَةِ وَلَا الْعِلْمِ بِمَا فِيهَا مِنْ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَةِ، فَحَظُّهُمْ مِنْهَا مُكَابَرَتُهَا وَجُحُودُ تَنْزِيلِهَا وَفَرِيقٌ يَعْلَمُونَ، وَبِالْبَيَانِ يَهْتَدُونَ - أَمَرَهُ

أَنْ يَتَّبِعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، بِالْبَيَانِ لَهُ وَالْعَمَلِ بِهِ، مُشِيرًا بِإِضَافَةِ اسْمِ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِهِ، وَنَاصِبًا إِيَّاهُ إِمَامًا لِجَمِيعِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، يَتَرَبَّى بِهِ مِنْ وُفِّقَ مِنْهُمْ لِاتِّبَاعِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَنْ يَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ وَيَأْتَمِرُ بِمَا أُمِرَ، وَقَرَنَ هَذَا الْأَمْرَ بِكَلِمَةِ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، لِبَيَانِ وُجُوبِ مُلَازَمَتِهِ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَكَمَا أَنَّ الْخَالِقَ الْمُرَبِّي لِلْأَشْبَاحِ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الرِّزْقِ، وَلِلْأَرْوَاحِ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْوَحْيِ، وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَلَا فِي الْهِدَايَةِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَاحِدًا لَا شَرِيكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>