عَلَى الْقُرْآنِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُؤَرِّخِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ، فَالْمُشْتَغِلُونَ بِتَحْرِيرِ التَّارِيخِ وَالْعِلْمِ الْيَوْمَ يَقُولُونَ مَعَنَا: إِنَّهُ لَا يُوثَقُ بِشَيْءٍ مِنْ تَارِيخِ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا أَزْمِنَةَ الظُّلُمَاتِ إِلَّا بَعْدَ التَّحَرِّي وَالْبَحْثِ وَاسْتِخْرَاجِ الْآثَارِ، فَنَحْنُ نَعْذُرُ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ حَشَوْا كُتُبَ التَّفْسِيرِ بِالْقِصَصِ الَّتِي لَا يُوثَقُ بِهَا لِحُسْنِ قَصْدِهِمْ، وَلَكِنَّنَا لَا نُعَوِّلُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ نَنْهَى عَنْهُ، وَنَقِفُ عِنْدَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ لَا نَتَعَدَّاهَا، وَإِنَّمَا نُوَضِّحُهَا بِمَا يُوَافِقُهَا إِذَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ.
(وَأَقُولُ) : إِنَّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ الْمُتَعَلِّقِ بِقَتْلِ الْبَقَرَةِ هُوَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ وَنَصُّهُ:
(١) إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ لِتَمْتَلِكَهَا وَاقِعًا فِي الْحَقْلِ لَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ.
(٢) يَخْرُجُ شُيُوخُكَ وَقُضَاتُكَ وَيَقِيسُونَ إِلَى الْمُدُنِ الَّتِي حَوْلَ الْقَتِيلِ.
(٣) فَالْمَدِينَةُ الْقُرْبَى مِنَ الْقَتِيلِ يَأْخُذُ شُيُوخُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ عِجْلَةٌ مِنَ الْبَقَرِ لَمْ يُحْرَثْ عَلَيْهَا لَمْ تَجُرَّ بِالنِّيرِ.
(٤) وَيَنْحَدِرُ شُيُوخُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِالْعِجْلَةِ إِلَى وَادٍ دَائِمِ السَّيَلَانِ لَمْ يُحْرَثْ فِيهِ وَلَمْ يُزْرَعْ وَيَكْسِرُونَ عُنُقَ الْعِجْلَةِ فِي الْوَادِي.
(٥) ثُمَّ يَتَقَدَّمَ الْكَهَنَةُ بَنُو لَاوَى. لِأَنَّهُ إِيَّاهُمُ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلَهُكَ لِيَخْدِمُوهُ وَيُبَارِكُوا بِاسْمِ الرَّبِّ، وَحَسَبَ قَوْلِهِمْ تَكُونُ كُلُّ خُصُومَةٍ وَكُلُّ ضَرْبَةٍ.
(٦) وَيَغْسِلُ جَمِيعُ شُيُوخِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبِينَ مِنَ الْقَتِيلِ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْعِجْلَةِ الْمَكْسُورَةِ الْعُنُقِ فِي الْوَادِي.
(٧) وَيُصَرِّحُونَ وَيَقُولُونَ: أَيْدِينَا لَمْ تَسْفِكْ هَذَا الدَّمَ وَأَعْيُنُنَا لَمْ تُبْصِرْ.
(٨) اغْفِرْ لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ الَّذِي فَدَيْتَ يَارَبُّ، وَلَا تَجْعَلْ دَمَ بَرِّيٍّ فِي وَسَطِ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ. فَيُغْفَرُ لَهُمُ الدَّمُ اهـ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ كَانَ لِفَصْلِ النِّزَاعِ فِي وَاقِعَةِ قَتْلٍ، وَيَرْوُونَ فِي قِصَّتِهِ رِوَايَاتٍ مِنْهَا أَنَّ الْقَاتِلَ كَانَ أَخَ الْمَقْتُولِ، قَتَلَهُ لِأَجْلِ الْإِرْثِ، وَأَنَّهُ اتَّهَمَ أَهْلَ الْحَيِّ بِالدَّمِ وَطَالَبَهُمْ بِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أَخِيهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَكَانُوا طَلَبُوا مِنْ مُوسَى الْفَصْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانَ الْقَاتِلِ، وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ اسْتَغْرَبُوهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَايَنَةِ لِمَا يَطْلُبُونَ وَالْبُعْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بِقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) أَيْ سُخْرِيَةً يُهْزَأُ بِنَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ سَفَهِهِمْ وَخِفَّةِ أَحْلَامِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِعَظَمَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَمَا يَجِبُ أَنْ يُقَابَلَ بِهِ أَمْرُهُ مِنَ الِاحْتِرَامِ وَالِامْتِثَالِ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ حِكْمَتُهُ