للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَّا مَثَلُ الْبَذْرَةِ وَالشَّجَرَةِ الْعَظِيمَةِ، فَهِيَ فِي بِدَايَتِهَا مَادَّةُ حَيَاةٍ تَحْتَوِي عَلَى جَمِيعِ أُصُولِهَا ثُمَّ تَنْمُو بِالتَّدْرِيجِ حَتَّى تَبَسُقَ فُرُوعُهَا بَعْدَ أَنْ تَعْظُمَ دَوْحَتُهَا ثُمَّ تَجُودُ عَلَيْكَ بِثَمَرِهَا. وَالْفَاتِحَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مُجْمَلِ مَا فِي الْقُرْآنِ، وَكُلُّ مَا فِيهِ تَفْصِيلٌ لِلْأُصُولِ الَّتِي وُضِعَتْ فِيهَا. وَلَسْتُ أَعْنِي بِهَذَا مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالْإِشَارَةِ وَدَلَالَةِ الْحُرُوفِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ أَسْرَارَ الْقُرْآنِ فِي الْفَاتِحَةِ.

وَأَسْرَارُ الْفَاتِحَةِ فِي الْبَسْمَلَةِ، وَأَسْرَارُ الْبَسْمَلَةِ فِي الْبَاءِ، وَأَسْرَارُ الْبَاءِ فِي نُقْطَتِهَا، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ عَلَيْهِمُ

الرِّضْوَانُ، وَلَا هُوَ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْغُلَاةِ الَّذِينَ ذَهَبَ بِهِمُ الْغُلُوُّ إِلَى سَلْبِ الْقُرْآنِ خَاصَّتَهُ وَهِيَ الْبَيَانُ.

(قَالَ) : وَبَيَانُ مَا أُرِيدُ هُوَ أَنَّ مَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لِأَجْلِهِ أُمُورٌ:

(أَحَدُهَا) : التَّوْحِيدُ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا كُلُّهُمْ وَثَنِيِّينَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَدَّعِي التَّوْحِيدَ.

(ثَانِيهَا) : وَعْدُ مَنْ أَخَذَ بِهِ وَتَبْشِيرُهُ بِحُسْنِ الْمَثُوبَةِ، وَوَعِيدُ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ وَإِنْذَارُهُ بِسُوءِ الْعُقُوبَةِ. وَالْوَعْدُ يَشْمَلُ مَا لِلْأُمَّةِ وَمَا لِلْأَفْرَادِ فَيَعُمُّ نِعَمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَسَعَادَتَهُمَا، وَالْوَعِيدُ كَذَلِكَ يَشْمَلُ نِقَمَهُمَا وَشَقَاءَهُمَا، فَقَدْ وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَالْعِزَّةِ وَالسُّلْطَانِ وَالسِّيَادَةِ، وَأَوْعَدَ الْمُخَالِفِينَ بِالْخِزْيِ وَالشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا وَعَدَ بِالنَّعِيمِ. وَأَوْعَدَ بِنَارِ الْجَحِيمِ فِي الْآخِرَةِ.

(ثَالِثُهَا) : الْعِبَادَةُ الَّتِي تُحْيِي التَّوْحِيدَ فِي الْقُلُوبِ وَتُثْبِتُهُ فِي النُّفُوسِ.

(رَابِعُهَا) : بَيَانُ سَبِيلِ السَّعَادَةِ وَكَيْفِيَّةِ السَّيْرِ فِيهِ الْمُوصِّلِ إِلَى نِعَمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

(خَامِسُهَا) : قَصَصُ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى وَأَخَذَ بِأَحْكَامِ دِينِهِ، وَأَخْبَارُ الَّذِينَ تَعَدَّوْا حُدُودَهُ وَنَبَذُوا أَحْكَامَ دِينِهِ ظِهْرِيًّا لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ، وَاخْتِيَارُ طَرِيقِ الْمُحْسِنِينَ وَمَعْرِفَةُ سُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ.

هَذِهِ هِيَ الْأُمُورُ الَّتِي احْتَوَى عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَفِيهَا حَيَاةُ النَّاسِ وَسَعَادَتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ، وَالْفَاتِحَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهَا إِجْمَالًا بِغَيْرِ مَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ، فَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لِأَنَّهُ نَاطِقٌ بِأَنَّ كُلَّ حَمْدٍ وَثَنَاءٍ يَصْدُرُ عَنْ نِعْمَةٍ مَا فَهُوَ لَهُ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ مَصْدَرَ كُلِّ نِعْمَةٍ فِي الْكَوْنِ تَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ. وَمِنْهَا نِعْمَةُ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّنْمِيَةِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِاسْتِلْزَامِ الْعِبَارَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَصَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) . وَلَفْظُ (رَبِّ) لَيْسَ مَعْنَاهُ الْمَالِكَ وَالسَّيِّدَ فَقَطْ، بَلْ فِيهِ مَعْنَى التَّرْبِيَةِ وَالْإِنْمَاءِ، وَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ يَرَاهَا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْآفَاقِ مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَلَيْسَ فِي الْكَوْنِ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِيجَادِ وَلَا بِالْإِشْقَاءِ وَالْإِسْعَادِ سِوَاهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>