آنِفًا، أَيْ مُبْتَدَأً مِنْهُ غَيْرَ جَارٍ عَلَى نِظَامٍ تَكُونُ فِيهِ الْمُسَبَّبَاتُ عَلَى قَدْرِ الْأَسْبَابِ. الْجَبْرُ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْقَدَرِ أَيْضًا. فَتَوْلِيَةُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ لَيْسَ خَلْقًا مُبْتَدَأً مِنَ اللهِ وَلَا وَاقِعًا مِنَ النَّاسِ بِالْإِجْبَارِ وَالِاضْطِرَارِ. وَلَا بِالِاسْتِقْلَالِ الْمُنَافِي لِلْخُضُوعِ لِلسُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، وَإِنَّمَا جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ بِأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الَّتِي تَصْدُرُ مِنْهُمْ تَأْثِيرٌ فِي أَنْفُسِهِمْ يَصِيرُ بِالتَّكْرَارِ عَادَةً فَخُلُقًا وَمَلَكَةً، وَأَنَّ الْأَفْرَادَ وَالْجَمَاعَاتِ يَمِيلُ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى مَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَيَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ فِيمَا يَشْتَرِكُونَ فِيهِ عَلَى مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِيهِ، وَقَدْ جَهِلَ الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ جَمِيعًا حَقِيقَةَ الْقَدَرِ، وَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَحْمِلُ الْآيَاتِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ مُتَعَارِضَةٌ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا اخْتِلَافَ
وَلَا تَعَارُضَ فِيهَا.
فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ - أَيْ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا - مِنِ اسْتِمْتَاعِ أَوْلِيَاءِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِي الدُّنْيَا لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاسُبِ وَالْمُشَاكَلَةِ، نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ بَعْضًا بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَهُ بِاخْتِيَارِهِمْ مِنْ أَعْمَالِ الظُّلْمِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمْ، أَيْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِسُنَّتِنَا وَقَدَرِنَا، الَّذِي قَامَ بِهِ النِّظَامُ الْعَامُّ فِي خَلْقِنَا، فَلَيْسَ خَلْقًا مُبْتَدَأً كَمَا تَزْعُمُ الْقَدَرِيَّةُ، وَلَا أَفْعَالًا اضْطِرَارِيَّةً كَمَا تَزْعُمُ الْجَبْرِيَّةُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا رِوَايَاتٌ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ.
رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: إِنَّمَا يُوَلِّي اللهُ بَيْنَ النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَيْنَ كَانَ وَحَيْثُمَا كَانَ، وَالْكَافِرُ وَلِيُّ الْكَافِرِ مِنْ أَيْنَ كَانَ وَحَيْثُمَا كَانَ، لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي، وَلَعَمْرِي لَوْ عَمِلْتَ بِطَاعَةِ اللهِ وَلَمْ تَعْرِفْ أَهْلَ طَاعَةِ اللهِ مَا ضَرَّكَ ذَلِكَ، وَلَوْ عَمِلْتَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ وَتَوَلَّيْتَ أَهْلَ طَاعَةِ اللهِ مَا نَفَعَكَ ذَلِكَ شَيْئًا. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ انْتِمَاءَ الْمَرْءِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَدُخُولَهُ فِي جَامِعَتِهِمْ وَنُصْرَتَهُ لَهُمْ لَا تَجْعَلُهُ مِنْهُمْ حَقِيقَةً، إِلَّا إِذَا كَانَ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ لَا لِمُجَرَّدِ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهَدْيِ دِينِهِمْ فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ بِدُونِ تَوَلِّيهِمْ إِذَا كَانَ عَدَمُ تَوَلِّيهِمْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِهِمْ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا عَرَفَهُمْ لَا يَسَعُهُ إِلَّا أَنْ يَتَوَلَّاهُمْ إِذَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُمْ فِي الْجَامِعَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بِحَسَبِ قَدَرِ اللهِ وَشَرْعِهِ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (٨: ٧٢) الْآيَةَ. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (٨: ٧٣) أَيْ إِنْ لَا تَفْعَلُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَذَا التَّوَلِّيَ بِالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ بَيْنَكُمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَرَجَّحَهُ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَيْهِ دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِوِلَايَةِ الْإِرْثِ. وَقَدْ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ وَالْفَسَادُ الْكَبِيرُ بِتَرْكِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute