عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا نَعْرِفُهُ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ أَنَّهُمْ صَحِبُوهُ إِلَى حَيْثُ كَانَ يُنَاجِي اللهَ - تَعَالَى -، وَكَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ - تَعَالَى - مَعَهُمْ أَنْ صَدَّقُوا بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَالتَّصْدِيقُ بِذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّتِهِ وَكُنْهِهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا نُصَدِّقُ بِهِ تَصْدِيقَ يَقِينٍ لَا نَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَكُنْهَهُ وَلَا كَيْفِيَّةَ تَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُخْتَارِينَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى
قَوْمِهِمْ، حَرَّفُوا كَلَامَ اللهِ الَّذِي حَضَرُوا وَحْيَهُ وَأَذْعَنُوا لَهُ، بِأَنْ صَرَفُوهُ عَنْ وَجْهِهِ بِالتَّأْوِيلِ - كَمَا حَقَّقَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ - وَهَذَا التَّحْرِيفُ ثَابِتٌ عِنْدَهُمْ، مَنْصُوصٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالتَّارِيخِ الدِّينِيِّ الَّذِي يُسَمَّى التَّارِيخَ الْمُقَدَّسَ.
فَدَلَّ هَذَا مَا سَبَقَهُ عَلَى أَنَّ الْقَسْوَةَ الْمَانِعَةَ مِنَ التَّأَثُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَمُكَابَرَةَ الْحَقِّ وَالتَّفَصِّيَ مِنْ عِقَالِ الشَّرِيعَةِ، كَانَ شَنْشَنَةً قَدِيمَةً فِيهِمْ، ثُمَّ تَأَصَّلَ فَصَارَ غَرِيزَةً مَطْبُوعَةً، فَإِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ لَا يَسْتَلْزِمُ الطَّعْنَ عَلَيْهِ، وَلَا الْقَوْلَ بِجَوَازِ تَسَلُّقِ شَيْءٍ مِنَ الرَّيْبِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَعَانَدُوا وَجَاحَدُوا وَهُمْ يُشَاهِدُونَ الْآيَاتِ الْحِسِّيَّةَ، وَيُؤْخَذُونَ بِالْعُقُوبَاتِ الْمَعَاشِيَّةِ، فَكَيْفَ يُسْتَنْكَرُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْ دِينٍ دَلَائِلُهُ عَقْلِيَّةٌ، وَآيَتُهُ الْكُبْرَى مَعْنَوِيَّةٌ! وَهِيَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ بِمَا فِيهِ مِنْ عُلُومِ الْهِدَايَةِ، وَدَقَائِقِ الْبَلَاغَةِ، وَأَنْبَاءِ الْغَيْبِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ أُمِّيٍّ عَاشَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُزَاحِمْ فُحُولَ الْبَلَاغَةِ فِي نَثْرٍ وَلَا نَظْمٍ، وَفَهْمُ تِلْكَ الدَّلَائِلِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ الْحُرَّةِ وَالْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ، الَّذِينَ لَطُفَ شُعُورُهُمْ وَرَقَّ وِجْدَانُهُمْ، وَصَحَّتْ أَذْوَاقُهُمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَا هُنَا تَحْرِيفَ كَلَامِ التَّوْرَاةِ الْمَكْتُوبِ لَمَا قَالَ: (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) ، فَزِيَادَةُ (يَسْمَعُونَ) هُنَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حِكْمَةٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى نَسَقِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا التَّحْرِيفَ، كَأَنْ يَقُولَ: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يُحَرِّفُ كَلَامَ اللهِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) نَصٌّ فِي التَّعَمُّدِ وَسُوءِ الْقَصْدِ، وَإِبْطَالٌ لِمَا عَسَاهُ يُعْتَذَرُ لَهُمْ بِهِ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ. ثُمَّ قَالَ: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أَيْ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِعْلَتَهُمُ الشَّنْعَاءَ فِي حَالِ الْعِلْمِ بِالصَّوَابِ وَاسْتِحْضَارِهِ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى نِسْيَانٍ أَوْ ذُهُولٍ، وَفِي هَذَيْنَ الْقَيْدَيْنِ مِنَ النَّعْيِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ وَقَدْ بَطَلَ بِهِمَا عُذْرُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَسَجَّلَ عَلَيْهِمْ تَعَمُّدَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ!
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الِاحْتِجَاجِ انْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ بَعْضِ أَحْوَالِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ وَقَدْ غَيَّرَ الْأُسْلُوبَ هُنَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَحْكِي سَيِّئَاتِهِمْ مُبْتَدِئًا بِكَلِمَةِ (وَإِذْ) لِأَنَّهُ تَذْكِيرٌ بِمَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَالِابْتِدَاءُ بِكَلِمَةِ (إِذَا) هُنَا هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ حَالٍ وَاقِعَةٍ فِي الْحَالِ مُسْتَمِرَّةٍ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَالْمُرَادُ مِنْ حِكَايَةِ
أَحْوَالِ الْحَاضِرِينَ بَيَانُ أَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِأَحْوَالِ سَلَفِهِمُ الْغَابِرِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ مِمَّا كَانَ مِنْ أُولَئِكَ، قَالَ: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ؟ .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute