مَا عُرِفَ سَبَبُهُ فَيُطْلَبُ مِنْ طَرِيقِ السَّبَبِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ خَالِقَ الْأَسْبَابِ وَمُسَخِّرَهَا هُوَ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٣١: ١٣) - فَهَذَا شَرُّ الظُّلْمِ وَأَشَدُّهُ إِفْسَادًا لِلْعُقُولِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ - فَيَلْزَمُهُ إِذًا سَائِرُ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ الْحَقِيقِيِّ وَالْإِضَافِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (: ٨٢) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِذَا كَانَ فَلَاحُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ بِالْأَوْلَى مُنْتَفِيًا بِشَرْعِ اللهِ وَسُنَّتِهِ الْعَادِلَةِ، انْحَصَرَ الْفَلَاحُ وَالْفَوْزُ فِي أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ وَمَنْ يَرْتَبِطُ مَعَهُمْ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ، وَهَذَا لَا يَكْمُلُ إِلَّا لِرُسُلِ اللهِ وَجُنْدِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ نَصَرَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَى الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِهِ أَوَّلًا كَأَكَابِرِ مُجْرِمِي مَكَّةَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ؟ ثُمَّ عَلَى سَائِرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، ثُمَّ نَصَرَ أَصْحَابَهُ عَلَى أَعْظَمِ أُمَمِ الْأَرْضِ وَأَقْوَاهَا جُنْدًا وَأَعْظَمِهَا مُلْكًا وَأَرْقَاهَا نِظَامًا كَالرُّومَانِ وَالْفُرْسِ؟ ثُمَّ نَصَرَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَشَعْبٍ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ فِي الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ وَالْفُتُوحِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِقَدْرِ حَظِّهِمْ مِنِ اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ. فَلَمَّا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا النَّاسَ وَصَارَ حَظُّهُمْ مِنْ هِدَايَةِ دِينِهِمْ نَحْوًا مِمَّا كَانَ مِنْ حَظِّ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَهُمْ مِنْ هِدَايَةِ رُسُلِهِمْ أَوْ أَقَلَّ، وَلَمْ يَعُدْ لَهُمْ مَزِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِي هَذَا السَّبَبِ الْمَعْنَوِيِّ لِلنَّصْرِ وَالْفَلَاحِ، بَلِ انْحَصَرَ الْفَوْزُ فِي الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ، وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ. وَالْعَدْلِ وَالنِّظَامِ وَنَرَى
كَثِيرًا مِنَ الْجَاهِلِينَ بِالْإِسْلَامِ يَقُولُونَ: مَا بَالُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَضَاعُوا مُلْكَهُمْ إِذَا كَانَ اللهُ قَدْ وَعَدَ بِنَصْرِهِمْ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَعِدْ قَطُّ بِنَصْرِ مَنْ يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُمْ. وَإِنَّمَا وَعَدَ بِنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُقِيمُ مَا شَرَعَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَبِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ مَهْمَا تَكُنْ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَلْقَابُهُمْ. إِذَا نَازَعَهُمُ الْبَقَاءُ مَنْ هُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ أَوِ النِّظَامِ مِنْهُمْ (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) (١٤: ١٣، ١٤) وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلٌ لِهَذَا الْبَحْثِ غَيْرَ مَرَّةٍ.
قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (مَكَانَاتِكُمْ) بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَالْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَكَانَةِ أَلَّا تُجْمَعَ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، وَنُكْتَةُ جَمْعِهَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِفَادَةُ أَنَّ لِلْكُفَّارِ مَكَانَاتٍ مُتَفَاوِتَةً، لِتَعَدُّدِ الْبَاطِلِ وَوَحْدَةِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (مَنْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْبَاقُونَ (تَكُونُ) بِالْفَوْقِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ تَأْنِيثَ الْعَاقِبَةِ لَفْظِيٌّ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِ فَحَسُنَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ كَتَأْنِيثِهِ، وَفِي حَالِ الْفَصْلِ يَجُوزُ تَذْكِيرُ الْعَامِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْمُولُ مُؤَنَّثًا حَقِيقِيًّا.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ اقْتِرَانُ سَوْفَ بِالْفَاءِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الزُّمَرِ لِأَنَّهَا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ وَتُرِكَتِ الْفَاءُ فِي آيَةِ هُودٍ (١١: ٩٣) لِأَنَّهَا فِي جَوَابِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute