وَاخْتَلَقُوهُ اخْتِلَاقًا وَاللهُ بَرِيءٌ مِنْهُ لَمْ يُشَرِّعْهُ لَهُمْ، وَمَا كَانَ لِغَيْرِ اللهِ أَنْ يُحَلِّلَ أَوْ يُحَرِّمَ عَلَى الْعِبَادِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (١٠: ٥٩) أَيْ بَلْ أَنْتُمْ تَفْتَرُونَ عَلَيْهِ. وَلَا يَزَالُ بَعْضُ النَّاسِ يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى النَّاسِ بِأَهْوَائِهِمْ أَوْ تَقْلِيدِ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ وَالْمُنْتَحِلِينَ لِمَذَاهِبِهِمْ، إِمَّا مُوَقَّتًا بِيَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ تَنَسُّكِ تَصَوُّفٍ، وَإِمَّا تَحْرِيمًا مُطْلَقًا دَائِمًا، وَهُمْ يَجْهَلُونَ عَلَى ادِّعَائِهِمْ لِلْعِلْمِ وَالدِّينِ، أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ سُوءَ حَالِهِمْ، وَذُيِّلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِبَيَانِ سُوءِ مَآلِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ سَيُجْزَوْنَ الْجَزَاءَ الشَّدِيدَ الْأَلِيمَ بِسَبَبِ هَذَا الِافْتِرَاءِ الْقَبِيحِ.
(وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ) هَذَا ضَرْبٌ آخَرُ مِنْ أَحْكَامِهِمُ السَّخِيفَةِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِمَا فِي بُطُونِ بَعْضِ الْأَنْعَامِ مِنَ اللَّبَنِ وَالْأَجِنَّةِ، رُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنْعَامِ هُنَا الْبَحَائِرُ وَحْدَهَا أَوْ هِيَ وَالسَّوَائِبُ، كَانُوا يَجْعَلُونَ لَبَنَهَا لِلذُّكُورِ وَيُحَرِّمُونَهُ عَلَى الْإِنَاثِ، وَكَانَتْ إِذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا حَيًّا جَعَلُوهُ خَالِصًا لِلذُّكُورِ لَا تَأْكُلُ مِنْهُ الْإِنَاثُ وَإِذَا كَانَ مَيْتًا اشْتَرَكَ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَإِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى تَرَكُوهَا لِأَجْلِ النِّتَاجِ. وَبَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ لَمْ يُقَيِّدُوا هَذِهِ الْأَنْعَامَ بِالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ، فَيُمْكِنُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي أَنْعَامٍ أُخْرَى يُعَيِّنُونَهَا بِغَيْرِ وَصْفِ الْبَحِيرَةِ أَيْ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ، وَالسَّائِبَةُ الَّتِي تُسَيَّبُ وَتُتْرَكُ لِلْآلِهَةِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهَا أَحَدٌ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْبَحِيرَةَ لَا يَأْكُلُ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا الرِّجَالُ وَإِنْ مَاتَ مِنْهَا شَيْءٌ أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ فِي شَأْنِ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ لَا فِي نَفْسِهَا فَلَا يَصِحُّ إِدْخَالُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي تَفْسِيرِهَا - قُلْنَا يَصِحُّ ذَلِكَ بَلْ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ.
قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " وَإِنْ تَكُنْ " بِالتَّاءِ " وَمَيْتَةٌ " بِالرَّفْعِ، وَابْنُ كَثِيرٍ: " يَكُنْ " بِالْيَاءِ وَ " مَيْتَةٌ " بِالرَّفْعِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ " يَكُنْ " بِالْيَاءِ وَ " مَيْتَةً " بِالنَّصْبِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَيْسَ فِي قِرَاءَتِهِ إِلَّا تَأْنِيثُ الْفِعْلِ " تَكُنْ " لِتَأْنِيثِ خَبَرِهِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ فَقَالُوا: إِنَّ فِيهَا حَذْفَ الْخَبَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ مَيْتَةٌ - أَوْ - وَإِنْ يَكُنْ هُنَاكَ مَيْتَةٌ، وَتَذْكِيرُ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ بِمَعْنَى الْمَيِّتِ، وَهَذَا يُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْأَنْعَامِ نَفْسِهَا وَبِأَجِنَّتِهَا الَّتِي فِي بُطُونِهَا وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا إِذَا جُعِلَتْ " يَكُنْ " بِمَعْنَى يُوجَدُ أَيْ فِعْلًا تَامًّا. وَقَالُوا فِي تَقْدِيرِ قِرَاءَةِ عَاصِمٍ: وَإِنْ تَكُنِ الْمَذْكُورَةُ مَيْتَةً، وَهُوَ يَشْمَلُ تِلْكَ الْأَنْعَامَ وَمَا فِي بُطُونِهَا أَيْضًا. بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ مِثْلَ هَذَا فِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute