هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى تَمَامِ الْعَشْرِ بَعْدَهَا فِي تَتِمَّةِ سِيَاقِ مَسْأَلَةِ تَحْرِيمِ الْمُشْرِكِينَ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَغْذِيَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّهُ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُنَزَّلَةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ ; لِأَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ لَا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مِنْ جَهَالَاتِهِمْ وَضَلَالَاتِهِمُ الْعَمَلِيَّةِ، ذَلِكَ أَصْلُ الدِّينِ الْأَعْظَمُ تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى بِاعْتِقَادِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لَهُ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَحَقِّ التَّشْرِيعِ بِأَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا رَبَّ وَلَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا إِلَهَ يُعْبَدُ مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ، وَلَا شَارِعَ سِوَاهُ لِعِبَادَةٍ وَلَا حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ، وَفِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ مُنْتَهَى تَكْرِيمِ الْإِنْسَانِ. فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ.
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) الْإِنْشَاءُ إِيجَادُ الْأَحْيَاءِ وَتَرْبِيَتُهَا، وَكَذَا كُلُّ مَا يَكْمُلُ بِالتَّدْرِيجِ كَإِنْشَاءِ السَّحَابِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ وَالشِّعْرِ وَالدُّوْرِ وَالْجَنَّاتِ الْبَسَاتِينَ وَالْكُرُومِ الْمُلْتَفَّةِ الْأَشْجَارِ بِحَيْثُ تَجُنُّ الْأَرْضَ وَتَسْتُرُهَا. وَالْمَعْرُوشَاتُ الْمَسْمُوكَاتُ عَلَى الْعَرَائِشِ وَهِيَ مَا يُرْفَعُ مِنَ الدَّعَائِمِ وَيُجْعَلُ عَلَيْهَا مِثْلُ السُّقُوفِ مِنَ الْعِيدَانِ وَالْقَصَبِ. وَمَادَّةُ عَرَشَ تَدُلُّ عَلَى الرَّفْعِ وَمِنْهَا
عَرْشُ الْمَلِكِ. وَالْمَعْرُوشَاتُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، يُقَالُ: عَرَّشَ دَوَالِيَ الْعِنَبِ عَرْشًا وَعُرُوشًا وَعَرَّشَهَا تَعْرِيشًا إِذَا رَفَعَهَا عَلَى الْعَرِيشِ. وَيُقَالُ: عَرَّشَتِ الدَّوَالِي تُعَرِّشُ (بِكَسْرِ الرَّاءِ) إِذَا ارْتَفَعَتْ بِنَفْسِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَعْرُوشَاتِ مَا يُعَرِّشُ مِنَ الْكَرْمِ وَغَيْرِهِ، وَغَيْرَ الْمَعْرُوشَاتِ مَا لَا يُعَرِّشُ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ الْأَوَّلَ: مَا عَرَّشَ النَّاسُ أَيْ فِي الْأَرْيَافِ وَالْعُمْرَانِ. وَالثَّانِي مَا خَرَجَ فِي الْجِبَالِ وَالْبَرِّيَّةِ مِنَ الثَّمَرَاتِ. وَالْمَعْهُودُ أَنَّ الْكَرْمَ مِنْهُ مَا يُعَرِّشُ وَمِنْهُ مَا يُتْرَكُ مُنْبَسِطًا عَلَى الْأَرْضِ، وَكُلُّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْرُوشَاتِ الَّتِي أَوْدَعَ اللهُ فِيهَا خَاصِّيَّةَ التَّسَلُّقِ وَالِاسْتِمْسَاكِ بِمَا تَتَسَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ عَرِيشٍ مَصْنُوعٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ جِدَارٍ وَنَحْوِهِ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْقِسْمَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ أَنْوَاعُ الْمَعْرُوشَاتِ بِالْقُوَّةِ كَالْكَرْمِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا تُعَرِّشُ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَبِالثَّانِي غَيْرُ الْمَعْرُوشَاتِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْتَوِي عَلَى سُوقِهِ وَلَا يَتَسَلَّقُ عَلَى غَيْرِهِ، وَخَصَّهُمَا بَعْضُهُمْ بِالْكَرْمِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَطْفُ النَّخْلِ عَلَيْهِ وَقَرْنُهُ بِهِ لِأَنَّهُ قَسِيمُهُ فِي كَوْنِ ثَمَرِهِمَا مِنْ أَصُولِ الْأَقْوَاتِ وَقَرِينَهُ فِيمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالشَّبَهِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّخْلَ مِنْ قِسْمِ الْجَنَّاتِ غَيْرِ الْمَعْرُوشَاتِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ تَخْصِيصًا لَهُ مِنْ إِفْرَادِ الْعَامِّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْكَثِيرَةِ وَلَا سِيَّمَا لِلْعَرَبِ، فَإِنَّ بُسْرَهُ وَرُطَبَهُ فَاكِهَةٌ وَغِذَاءٌ وَثَمَرَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَقْوَاتِ الَّتِي تُدَّخَرُ، وَأَيْسَرِهَا تَنَاوُلًا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، لَيْسَ فِيهِ مُؤْنَةٌ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى طَبْخٍ وَلَا مُعَالَجَةٍ، وَنَوَاهُ عَلَفٌ لِلرَّوَاحِلِ، وَلَهُمْ مِنْهُ شَرَابٌ حَلَالٌ لَذِيذٌ إِذَا نُبِذَ فِي الْمَاءِ زَمَنًا قَلِيلًا - وَهُوَ النَّبِيذُ أَيِ النَّقُوعِ - وَكَانَ أَكْثَرُ خَمْرِهِمْ مِنْهُ وَمَنْ بُسْرِهِ (وَلَا مِنَّةَ فِي الرِّجْسِ) دَعْ مَا فِي جَرِيدِ النَّخْلِ وَلِيفِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، فَهُوَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute