يُؤَاخِذُهُ بِأَكْلِ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ وَيَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاغِي مَنْ يَبْغِي عَلَى مُضْطَرٍّ مِثْلِهِ فَيَنْزِعُ مِنْهُ مَا هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ إِيثَارًا لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ حَظْرُهُ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَقِيلَ: هُوَ مَنْ يَبْغِي عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ وَيَخْرُجُ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ مَعْصِيَةٌ لَا دَخْلَ لَهَا فِي حِلِّ الطَّعَامِ وَحُرْمَتِهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ مَعَ عَطْفِ مَا حُرِّمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهَا أَنَّ حَصْرَ مُحَرَّمَاتِ الْأَطْعِمَةِ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ شَرَائِعِ جَمِيعِ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى: لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَشَرَائِعِهِمْ وَلَا فِيمَا شُرِعَ عَلَى لِسَانِي أَنَّ اللهَ حَرَّمَ طَعَامًا مَا عَلَى طَاعِمٍ مَا يَطْعَمُهُ إِلَّا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْأَرْبَعَةَ، وَمَا حَرَّمَهُ عَلَى الْيَهُودِ تَحْرِيمًا مُوَقَّتًا عُقُوبَةً لَهُمْ وَهُوَ مَا ذُكِرَ جُمْلَتُهُ أَوْ أَهَمُّهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَدَلِيلُ كَوْنِهِ مُوَقَّتًا مَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (٣: ٥٠) وَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِيمَنْ يَتَّبِعُ خَاتَمَ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (٧: ١٥٧) وَدَلِيلُ كَوْنِهِ عُقُوبَةً لَا لِذَاتِهِ مَا سَيَأْتِي وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) (٣: ٩٣) .
الْآيَةُ وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ الْقَطْعِيِّ، فَهِيَ نَصٌّ قَطْعِيٌّ فِي حِلِّ مَا عَدَا الْأَنْوَاعَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي حُصِرَ التَّحْرِيمُ بِهَا فِيهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ وَأَكِيلَةَ السَّبْعِ اللَّاتِي تَمُوتُ بِذَلِكَ وَلَا تُدْرَكُ تَذْكِيَتُهَا قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ نَوْعِ الْمَيْتَةِ، فَهِيَ تَفْصِيلٌ لَهَا لَا أَنْوَاعٌ حُرِّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تُعَدَّ نَاسِخَةً لِآيَةِ الْأَنْعَامِ وَتَحْرِيمُ الْخَبَائِثِ لَا يَدُلُّ عَلَى مُحَرَّمَاتٍ أُخْرَى فِي الطَّعَامِ غَيْرِ هَذِهِ فَيُجْعَلَ نَاسِخًا لِلْحَصْرِ فِيهَا، فَإِنَّ لَفْظَ الْخَبَائِثِ يَشْمَلُ مَا لَيْسَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ كَالْأَقْذَارِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَكُلِّ شَيْءٍ رَدِيءٍ. قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) (٢: ٢٦٧) فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُؤَكِّدَةِ لَهَا وَلَا مُخَصِّصٌ لِعُمُومِهَا، وَمَا يُرِيدُ اللهُ نَسْخَهُ أَوْ تَخْصِيصَهُ لَا يَجْعَلُهُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ الْمُؤَكَّدَةِ كُلَّ هَذَا التَّأْكِيدِ الَّذِي نَشْرَحُهُ بَعْدُ. وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ
وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ الْجَوَارِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي ; وَلِذَلِكَ. اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْآيَةِ. وَهَاكَ مُلَخَّصُ الْمَأْثُورِ فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ نَقْلًا عَنْ كِتَابِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ:
أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ وَيَسْتَحِلُّونَ أَشْيَاءَ فَنَزَلَتْ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute