يَتَمَتَّعُ أَهْلُهَا بِخَيْرَاتِ مُلْكِ الْأَكَاسِرَةِ وَالْقَيَاصِرَةِ فِي مَدَائِنَ كَجَنَّاتِ النَّعِيمِ كَبَغْدَادَ وَمِصْرَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَمْصَارِ
فَكَانَ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ جَعَلُوا مَا يَسْتَقْذِرُهُ مُتْرَفُو الْعَرَبِ فِي حَضَارَتِهِمْ مُحَرَّمًا عَلَى الْبَدْوِ الْبَائِسِينَ وَعَلَى خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِينَ، وَلَوْلَا تَأْثِيرُ هَذِهِ الْحَضَارَةِ لَرَاعَوْا فِي اجْتِهَادِهِمُ الْأُصُولَ الْقَطْعِيَّةَ فِي يُسْرِ الشَّرِيعَةِ وَعُمُومِهَا، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُكَلِّفَ اللهُ جَمِيعَ الْأُمَمِ الْتِزَامَ ذَوْقِ مُنَعَّمِي الْعَرَبِ فِي طَعَامِهِمْ - وَلْتَذْكُرُوا أَنَّ هَذَا التَّشَدُّدَ فِي التَّحْرِيمِ يُضَيِّقُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمُعْوِزُونَ أَمْرَ مَعِيشَتِهِمْ، وَالتَّوَسُّعُ فِي أَصْلِ الْإِبَاحَةِ يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُتْرَفِينَ وَالْمُوسِرِينَ كَمَا رَاعَى ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ: لَا تَطْعَمُوهُ وَقَذَّرَهُ وَقَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّمْهُ، إِنَّ اللهَ يَنْفَعُ بِهِ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا طَعَامُ عَامَّةِ الرِّعَاءِ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ عِنْدِي طَعِمْتُهُ اهـ. ثُمَّ لِتَذْكُرُوا مَعَ هَذَا وَذَاكَ مَا عَظَّمَ اللهُ مِنْ أَمْرِ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ كُنَّا نَأْخُذُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْمُشَدِّدِينَ بِالتَّسْلِيمِ وَنَجِدُهُ غَنِيًّا عَنِ الْبَحْثِ فِيهِ لِمُوَافَقَتِهِ لِأَذْوَاقِنَا وَعِيشَتِنَا. فَقَدْ نَشَأْنَا فِي بَيْتٍ لَا يَكَادُ يَأْكُلُ أَهْلُهُ مِنْ لُحُومِ الْأَنْعَامِ إِلَّا الضَّأْنَ ; وَيَعَافُونَ لَحْمَ الْبَقَرِ وَمَا تَعَوَّدْنَا أَكْلَهُ إِلَّا فِي السَّفَرِ، وَإِنَّ لِلْمُجْتَهِدِينَ ثَوَابًا حَتَّى فِيمَا أَخْطَئُوا فِيهِ لِحُسْنِ نِيَّتِهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ، وَلَكِنْ لَا عُذْرَ لِلْمُقَلِّدِينَ فِي اتِّبَاعِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ لِمَذْهَبٍ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ عُلَمَاؤُهُ وَتَرْكِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِمَا إِذَا دُعُوا إِلَيْهِمَا وَالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بَلِ الطَّعْنِ فِيهِ وَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ يُجِيزُ هَذَا التَّقْلِيدَ. وَيَرْضَى أَنْ يُتَّخَذَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّشْرِيعِ.
وَلَيْسَ فِيمَا أَطَلْنَا بِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ اسْتِطْرَادٌ وَلَا خُرُوجٌ عَنِ الْمَوْضُوعِ، وَلَوْ تَتَبَّعْنَا كُلَّ مَا قَالَ الْفُقَهَاءُ بِتَحْرِيمِهِ مُنَافِيًا لَهَا وَبَيَّنَّا بُطْلَانَ أَدِلَّتِهِمْ عَلَيْهِ لَمْ نَكُنْ خَارِجِينَ عَنْ حَدِّ تَفْسِيرِهَا وَلَكِنْ مَا تَرَكْنَا ذِكْرَهُ أَضْعَفُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ دَلِيلًا كَالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْهِرِّ وَالْخَيْلِ وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ رِوَايَةً وَيُعَارِضُهُ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ.
وَمُلَخَّصُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ - الَّتِي فَسَّرْنَاهَا بِمَا تَقَدَّمَ - هِيَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ الْمُحْكَمُ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الطَّعَامِ كَمَا فَهِمَهَا حَبْرُ الْأُمَّةِ وَإِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَعْظَمُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ مِنْ مُفَسِّرِي أَهْلِ النَّظَرِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالنَّيْسَابُورِيِّ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَوْ عَلِمَ عِنْدَ إِنْزَالِهَا - وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ - أَنَّهُ سَيَنْسَخُهَا أَوْ يُخَصِّصُ عُمُومَهَا لَمَا أَنْزَلَهَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ وَلَمَا أَكَّدَهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا وَأَيَّدَهَا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُؤَكِّدَاتِهَا وَمُؤَيِّدَاتِهَا وَهِيَ أَنْوَاعٌ:
(الْأَوَّلُ) الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا ثُمَّ آيَةُ النَّحْلِ ثُمَّ آيَةُ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ أَوَّلُ الْمَائِدَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فَهَذِهِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي مَوْضُوعِ الطَّعَامِ خَاصَّةً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute