للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ) الْإِشَارَةُ إِلَى التَّحْرِيمِ أَوِ الْجَزَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِهِ، أَيْ جَزَيْنَاهُمْ إِيَّاهُ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: إِنَّمَا حَرَّمَ اللهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةَ بَغْيِهِمْ فَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَمَا هُوَ بِخَبِيثٍ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (كُلُّ الطَّعَامِ) أَوَّلَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ وَتَفْسِيرِ: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) (٤: ١٦٠) فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ أَوَائِلِ الْجُزْءِ السَّادِسِ [ص٤٩ وَمَا بَعْدَهَا ج ٦ ط الْهَيْئَةِ] .

وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ شَرِيعَةِ الْيَهُودِ مِنَ الْأَنْبَاءِ الَّتِي لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَوْمُهُ يَعْلَمُونَ مِنْهَا شَيْئًا لِأُمِّيَّتِهِمْ، وَكَانَ مَظِنَّةَ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِالْوَحْيِ وَجَزْمِهِمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِأَعْلَمَ مِنْهُمْ بِشَرْعِ الْيَهُودِ، وَمَظِنَّةَ تَكْذِيبِ الْيَهُودِ

إِنَّ تَحْرِيمَ اللهِ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةٌ لَهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمُ الْمُبَيَّنِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) فَأَكَّدَ حَقِيقَةَ الْخَبَرِ وَصِدْقَ الْمُخْبِرِ بِـ " إِنَّ " وَالْجُمْلَةِ الْإِسْمِيَّةِ الْمُعَرَّفَةِ الطَّرَفَيْنِ وَلَامِ الْقَسَمِ، أَيْ صَادِقُونَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَنِ التَّحْرِيمِ وَعِلَّتِهِ، لِأَنَّ أَخْبَارَنَا صَادِرَةٌ عَنِ الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَالْكَذِبُ مُحَالٌ عَلَيْنَا لِاسْتِحَالَةِ كُلِّ نَقْصٍ عَلَى الْخَالِقِ.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أَيْ فَإِنْ كَذَّبُوكَ كُفَّارُ قَوْمِكَ أَوِ الْيَهُودُ فِي هَذَا وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ قِيلَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ ذِكْرًا. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ جِهَةِ السِّيَاقِ. فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ الْجَاهِلِينَ فَهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالْخِطَابِ بِالذَّاتِ. إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقْوَى بِالْجَوَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ شَرْعِهِمْ عِقَابًا لَهُمْ، لِلتَّشْدِيدِ فِي تَرْبِيَتِهِمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْ بَغْيِهِمْ عَلَى النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ لَهُمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى رَسُولِهِمْ، يُنْتَظَرُ مِنْهُمْ أَنْ يُكَذِّبُوا الْخَبَرَ مِنْ حَيْثُ تَعْلِيلِهِ بِمَا ذُكِرَ، وَيَحْتَجُّوا عَلَى إِنْكَارِ كَوْنِهِ عُقُوبَةً بِكَوْنِ الشَّرْعِ رَحْمَةً مِنَ اللهِ ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا يَدْحَضُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِإِثْبَاتِهِ لَهُمْ أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى وَاسِعَةٌ حَقِيقَةً وَلَكِنَّ سَعَتَهَا لَا تَقْتَضِي أَنْ يُرَدَّ بَأْسُهُ وَيُمْنَعَ عِقَابُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. وَالْبَأْسُ الشِّدَّةُ وَالْمَكْرُوهُ، وَإِصَابَةُ النَّاسِ بِالْمَكَارِهِ وَالشَّدَائِدِ عِقَابًا عَلَى جَرَائِمَ ارْتَكَبُوهَا قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً بِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِغَيْرِهِمْ، لِيَنْتَهُوا عَنْ مِثْلِهَا أَوْ لِيَتَرَبَّوْا عَلَى تَرْكِ التَّرَفِ وَالْخُنُوثَةِ فَتَقْوَى عَزَائِمُهُمْ وَتَعْلُوَ هِمَمُهُمْ فَيَرْبَئُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنِ الْجَرَائِمِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَهَذَا الْعِقَابُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْمُطَّرِدَةِ فِي الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ وَإِنْ لَمْ يَطَّرِدْ فِي الْأَفْرَادِ لِقِصَرِ أَعْمَارِهِمْ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ مِرَارًا كَثِيرَةً. وَلِذَلِكَ قَالَ: (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) وَلَمْ يَقُلْ عَنِ الْمُجْرِمِينَ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ تَكْذِيبَ الْيَهُودِ لِهَذَا الْخَبَرِ إِنَّمَا هُوَ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ يَعْقُوبَ هُوَ الَّذِي حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْإِبِلَ أَوْ عِرْقَ النِّسَا كَمَا قَالُوهُ فِي تَفْسِيرِ: (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) (٣: ٩٣) وَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي كَانَ بَعْضُ الْيَهُودِ يَغُشُّ بِهَا الْمُسْلِمِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>