للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الرُّسُلِ فِي دَعْوَاهُمْ وَبُطْلَانِ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ عَطَّلُوا شَرَائِعَهُمْ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ كَمَالَ الْإِيمَانِ بِهَا وَبِهِمْ.

وَبَعْدَ هَذَا التَّذْكِيرِ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْرِكِينَ بِدَلِيلٍ عِلْمِيٍّ عَلَى زَعْمِهِمْ فَقَالَ: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) أَيْ هَلْ عِنْدَكُمْ بِمَا تَقُولُونَ عِلْمٌ مَا تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ وَتَحْتَجُّونَ بِهِ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا لِنَبْحَثَ مَعَكُمْ فِيهِ، وَنَعْرِضَهُ عَلَى مَا جِئْنَاكُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمَحْكِيَّةِ عَنْ وَقَائِعِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَكُمْ، وَنَنْصِبَ بَيْنَهُمَا الْمِيزَانَ الْقِسْطَ لِيَظْهَرَ الرَّاجِحُ مِنَ الْمَرْجُوحِ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّعْجِيزِ وَالتَّوْبِيخِ ; وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَيْهِ بَيَانَ حَقِيقَةِ حَالِهِمْ فَقَالَ: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أَيْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ مَا مِنَ الْعِلْمِ، بَلْ مَا تَتَّبِعُونَ فِي بَقَائِكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَقِيدَةٍ وَقَوْلٍ فِي الدِّينِ وَعَمَلٍ بِهِ إِلَّا الظَّنَّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَا لَيْسَ مِنْ مُدْرَكَاتِ الْحِسِّ وَلَا ضَرُورِيَّاتِ الْعَقْلِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ نَظَرِيَّاتٍ يَطْمَئِنُّ لَهَا الْقَلْبُ وَيُرَجِّحُهَا الْعَقْلُ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي فِي إِثْبَاتِ أَصْلَيِ الدِّينِ وَهُمَا عَقَائِدُهُ وَقَوَاعِدُ التَّشْرِيعِ الَّتِي يَجِبُ الْجَزْمُ بِهَا، بَلْ كَانُوا يَتَّبِعُونَ أَدْنَى دَرَجَاتِهِ وَأَضْعَفَهَا لَا يَعْدُونَهَا، وَهِيَ دَرَجَةُ الْخَرْصِ، أَيِ الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ الْحُكْمُ، كَخَرْصِ مَا يَأْتِي مِنَ النَّخِيلِ أَوِ الْكَرْمِ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الْخَرْصُ عَلَى لَازِمِهِ الَّذِي يَنْدُرُ أَنْ يُفَارِقَهُ وَهُوَ الْكَذِبُ، وَقَدْ فُسِّرَ بِهِ هُنَا.

بَعْدَ أَنْ نَفَى عَنْهُمْ أَدْنَى مَا يُقَالُ لَهُ عَلِمٌ، وَحَصَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ فِي أَدْنَى مَرَاتِبِ الظَّنِّ، مَعَ أَنَّ أَعْلَاهَا لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ مِنْ شَيْءٍ. أَثْبَتَ لِذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْحُجَّةَ الْعُلْيَا الَّتِي لَا تَعْلُوهَا حُجَّةٌ فَقَالَ:

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) الْحُجَّةُ فِي اللُّغَةِ الدَّلَالَةُ الْمُبَيِّنَةُ لِلْحُجَّةِ، أَيِ الْمَقْصِدُ الْمُسْتَقِيمُ - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ - فَهِيَ مِنَ الْحَجِّ الَّذِي هُوَ الْقَصْدُ، وَالْمَعْنَى قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ بَنَوْا قَوَاعِدَ دِينِهِمْ عَلَى أَسَاسِ الْخَرْصِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ الظَّنِّ، بَعْدَ تَعْجِيزِكَ إِيَّاهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِأَدْنَى دَلِيلٍ أَوْ قَوْلٍ يَرْتَقِي إِلَى أَدْنَى دَرَجَةٍ مِنَ الْعِلْمِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ مَا فِي أَمْرِ دِينِكُمْ، فَلِلَّهِ وَحْدَهُ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ، مِمَّا بَعَثَنِي بِهِ مِنْ مَحَجَّةِ دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَصِرَاطِهِ

الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ لِمَا أَرَادَ مِنْ إِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِزْهَاقِ الْبَاطِلِ، وَهِيَ مَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَقَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ وَمُوَافَقَتِهَا لِحِكَمِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْكَامِلَةِ، وَسُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَتَكْمِيلِهَا لِلنِّظَامِ الْعَامِّ، الَّذِي يُعَرِّجُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي مَرَاقِي الْكَمَالِ، وَلَكِنْ لَا يَكَادُ يَهْتَدِي بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنْبَثَّةِ فِي الْأَكْوَانِ، الْمُبَيَّنَةِ فِي آيَةِ اللهِ الْكُبْرَى وَهِيَ الْقُرْآنُ، إِلَّا الْمُسْتَعِدُّ لِلْهِدَايَةِ، وَهُوَ الْمُحِبُّ لِلْحَقِّ الْحَرِيصُ عَلَى طَلَبِهِ، الَّذِي يَسْتَمِعُ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُ أَحْسَنَهُ، دُونَ مَنْ أَطْفَأَ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى

<<  <  ج: ص:  >  >>