فَكُلُّ بَاحِثٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ. وَهَذَا أَمْرٌ قَطْعِيٌّ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنَّ جَمِيعَ الْمُتَعَصِّبِينَ لِلْمَذَاهِبِ الْمُلْتَزِمِينَ لَهَا مُخَالِفُونَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِصِرَاطِ اللهِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ الْوَاحِدُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى كِتَابِ اللهِ وَإِلَى مَا صَحَّ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَعْرَضُوا عَنْهُمَا وَآثَرُوا عَلَيْهِمَا قَوْلَ أَيِّ مُؤَلِّفٍ لِكِتَابٍ مُنْتَمٍ إِلَى مَذَاهِبِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ اتِّبَاعُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَعَدَمُ التَّفَرُّقِ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ الْمُوَحِّدَ لِأَهْلِ الْحَقِّ الْجَامِعَ لِكَلِمَتِهِمْ، وَتَوْحِيدِهِمْ وَجَمْعُ كَلِمَتِهِمْ هُوَ الْحَافِظُ لِلْحَقِّ الْمُؤَيِّدُ لَهُ وَالْمُعِزُّ لِأَهْلِهِ - كَانَ التَّفَرُّقُ فِيهِ بِمَا ذُكِرَ سَبَبًا لِضَعْفِ الْمُتَفَرِّقِينَ وَذُلِّهِمْ وَضَيَاعِ حَقِّهِمْ. فَبِهَذَا التَّفَرُّقِ حَلَّ بِأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مَا حَلَّ مِنَ التَّخَاذُلِ وَالتَّقَاتُلِ وَالضَّعْفِ وَضَيَاعِ الْحَقِّ، وَقَدِ اتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى حَلَّ بِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالْهَوَانِ مَا يَتَأَلَّمُونَ مِنْهُ وَيَتَمَلْمَلُونَ وَلَمْ يَرْدَعْهُمْ عَنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْهُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَأَحَادِيثِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ الْمُبِينِ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فَرْقٌ إِلَّا فِي أَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) حِفْظُ الْقُرْآنِ مِنْ أَدْنَى تَغْيِيرٍ وَأَقَلِّ تَحْرِيفٍ، وَضَبْطُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ بِمَا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ نَظِيرٌ. (وَثَانِيهُمَا) وُجُودُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ تَدْعُو إِلَى صِرَاطِ اللهِ وَحْدَهُ، وَتَتَّبِعُهُ بِالْعَمَلِ وَالْحُجَّةِ، كَمَا بَشَّرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ قَلُّوا فِي الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ، وَكُلُّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ فِي الْإِسْلَامِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يُكَثِّرَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَيَجْعَلَنَا مِنْ أَئِمَّتِهِمْ فَقَدْ بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) وَقَوْلِهِ: (أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٤٢: ٣) وَنَحْوِ هَذَا فِي الْقُرْآنِ قَالَ: أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ.
وَقَدْ سَبَقَ لَنَا سَبْحٌ طَوِيلٌ فِي بَحْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُرَاجَعُ فِي مَوَاضِعِهِ كَتَفْسِيرِ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (٣: ١٠٣) وَمَا بَعْدَهَا فِي أَوَائِلِ الْجُزْءِ
الرَّابِعِ وَتَفْسِيرِ (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٤: ٥٩) وَتَفْسِيرِ (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (٤: ١٦٥) وَتَفْسِيرِ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٥: ٣) وَتَفْسِيرِ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا) (٦: ٦٥) وَفِيهِ بَحْثٌ مُسْتَفِيضٌ فِي عَذَابِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute