كَانَتِ الْوَصَايَا الْعَشْرُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ حُجَجِ اللهِ الْأَدَبِيَّةِ عَلَى حَقِيَّةِ دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَوُجُوبِ اتِّبَاعِ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، قَفَّى بِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أُصُولِ هَذَا الدِّينِ، وَدَحْضِ شُبُهَاتِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُمْتَرِينَ، وَلَمَّا كَمُلَتْ بِذَلِكَ حُجَجُ السُّورَةِ وَبَيِّنَاتُهَا حَسُنَ أَنْ يُنَبَّهَ هُنَا عَلَى مَكَانَةِ الْقُرْآنِ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْهِدَايَةِ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، وَإِعْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا يَعْمَلُونَ بِهِ أَنَّهُ لَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى ضَلَالِهِمْ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ إِرْسَالِ رَسُولٍ إِذَا هُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ. وَقَدِ افْتُتِحَ هَذَا التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ وَالْإِعْذَارُ بِذِكْرِ مَا يُشْبِهُ الْقُرْآنَ فِي شَرْعِهِ وَمِنْهَاجِهِ مِمَّا اشْتُهِرَ عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُوَ كِتَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا الْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ لِلتَّذْكِيرِ بِالتَّشَابُهِ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْلَمُونَ
أَنَّ الْيَهُودَ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ اسْمُهُ التَّوْرَاةُ، وَلَهُمْ رَسُولٌ اسْمُهُ مُوسَى، وَأَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ وَشَرِيعَةٍ، وَكَانَ بَعْضُ عُقَلَائِهِمْ يَتَمَنَّى لَوْ يُؤْتَى الْعَرَبُ مِثْلَمَا أُوتِيَ الْيَهُودُ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِثْلُ كِتَابِهِمْ لَكَانُوا أَهْدَى مِنْهُمْ وَأَعْظَمَ انْتِفَاعًا ; لِمَا يَعْتَقِدُونَ مِنِ امْتِيَازِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالذَّكَاءِ وَالْعَقْلِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ.
وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بَدْءِ هَذِهِ الْآيَةِ بِـ (ثُمَّ) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ مَا عُطِفَ بِهَا عَمَّا عُطِفَ عَلَيْهِ. فَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ عَطْفَ عَلَى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) بِحَذْفِ (قُلْ) وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وَوَصَّاكُمْ بِهِ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا - ثُمَّ قُلْ لَهُمْ وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّنَا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ إِلَخْ. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى (وَصَّاكُمْ) بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا قَدِيمَةٌ وَصَّى اللهُ بِهَا جَمِيعَ الْأُمَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهَا. وَالتَّقْدِيرُ: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) وَهُوَ أَبْعَدُ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَيُمْكِنُ إِيضَاحُهُ بِأَنَّ مُوسَى أُعْطِيَ الْكِتَابَ - بَعْدَ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْوَصَايَا - فِيهِ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا أَنَّ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ التَّفْصِيلِيَّةَ تَجِيءُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصَايَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ - وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَأْيَ الْإِمَامِ ابْنِ جَرِيرٍ وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا، وَقَالَ: إِنَّ (ثُمَّ) هَاهُنَا إِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ الْخَبَرِ بَعْدَ الْخَبَرِ لَا لِلتَّرْتِيبِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ
وَهَاهُنَا لَمَّا أَخْبَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَنِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) عَطْفٌ بِمَدْحِ التَّوْرَاةِ، وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute