للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَنْذَرَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ فَكَانُوا مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (١٨: ١٠٤)

بَيِّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي كِتَابِهِ سُنَنَهُ فِي الْأُمَمِ - وَمِنْهَا هَلَاكُ الْمُتَفَرِّقَةِ - وَأَنَّهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَلَكِنَّهُمْ هَجَرُوا الْكِتَابَ حَتَّى إِنَّ رِجَالَ الدِّينِ مِنْهُمْ تَرَكُوا إِرْشَادَ الْحُكَّامِ وَالْأُمَّةِ بِهِ، بَلِ اسْتَغْنَوْا عَنْ هِدَايَتِهِ بِتَقْلِيدِ شُيُوخِهِمْ. وَأَيَّدُوا الْحُكَّامَ وَأَقَرُّوهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ لِأَجْلِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ فَضَلَاتِ الرِّزْقِ وَمَظَاهِرِ الْجَاهِ.

الْإِصْلَاحُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْوَحْدَةِ:

وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَحْرِمِ الْأُمَّةَ مِنْ نَذِيرٍ يُجَدِّدُ هِدَايَةَ الرُّسُلِ، فَقَدْ بَعَثَ عَلَى رَأْسِ هَذَا الْقَرْنِ الْهِجْرِيِّ حَكِيمًا مِنْ سُلَالَةِ الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْوَحْدَةِ وَالرُّجُوعِ عَمَّا ابْتُلِيَتْ بِهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ. وَشَدَّ أَزْرَهُ فِي ذَلِكَ مُرِيدٌ لَهُ تَخَرَّجَ بِهِ فَكَانَ أَفْصَحَ لِسَانًا وَأَوْضَحَ بَيَانًا. وَقَدِ اسْتَفَادَتِ الْأُمَّةُ مِنْ إِصْلَاحِ هَذَيْنِ الْحَكِيمَيْنِ وَمَنْ جَرَى عَلَى أَثَرِهِمَا مَا بَعَثَ فِيهَا الِاسْتِعْدَادَ لِلْوَحْدَةِ وَالدَّعَايَةِ لِجَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنَّ الْأُمَمَ لَا تَتَرَبَّى بِالْإِرْشَادِ إِلَّا إِذَا أَعَدَّتِ الْأَنْفُسَ لَهُ الشَّدَائِدُ وَالْمَصَائِبُ. وَلَا سِيَّمَا أَنْفُسِ أَهْلِ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ الْمَغْرُورِينَ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ حُثَالَةِ الْمُلْكِ وَبَقَايَا مَظَاهِرِ الْعَظَمَةِ الْبَاطِلَةِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ أَكْثَرَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَتْ مَغْرُورَةً بِالدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ مُتَّكِلَةً عَلَيْهَا لِأَنَّهَا أَقْوَى دُوَلِهِمْ، وَهُمْ غَافِلُونَ كَشَعْبِهَا عَمَّا عَرَاهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُعَادُونَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّا نَحْتَاجُ إِلَى إِصْلَاحٍ، وَكَانَ السَّيِّدُ الْأَفْغَانِيُّ - وَهُوَ الْمُوقِظُ الْأَوَّلُ - يَقُولُ: إِنَّ انْكِسَارَ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ فِي الْحُرُوبِ الرُّوسِيَّةِ الْأَخِيرَةِ فِي عَهْدِهِ هُوَ الَّذِي أَعَدَّ الْمُسْلِمِينَ لِإِدْرَاكِ الْخَطَرِ الَّذِي يَحِيقُ بِهِمْ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْإِصْلَاحِ. وَقَالَ بَعْضُ أَذْكِيَاءِ رِجَالِهَا: إِنَّ انْتِصَارَ السُّلْطَانِ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَلَى الدَّوْلَةِ أَخَّرَ مَا نَرْجُو مِنَ الْإِصْلَاحِ سِنِينَ كَثِيرَةً. وَنَقُولُ: إِنَّ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ مِنْهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ لَهَا وَمِنْ غَيْرِهِمْ قَدْ ظَلُّوا سَادِرِينَ فِي غُرُورِهِمْ جَامِحِينَ فِي غَيِّهِمْ. إِلَى أَنِ انْكَسَرَتْ هَذَا

الِانْكِسَارَ الْفَظِيعَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَاحْتَلَّ الْأَجَانِبُ الْمُنْتَصِرُونَ عَلَيْهَا عَاصِمَتَهَا الَّتِي كَانَتْ أَعْظَمَ مَظَاهِرِ غُرُورِهَا (حَتَّى كُنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّهَا أَكْبَرُ عَقَبَاتِ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِهَا وَاقْتَرَحْنَا عَلَيْهَا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً اسْتِبْدَالَ عَاصِمَةٍ آسْيَوِيَّةٍ بِهَا) وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُمْ قَضَوْا عَلَيْهَا الْقَضَاءَ الْأَخِيرَ الْمُبْرَمَ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ. وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ أَمْضَى مَنْ أَنَابَتْ عَنْهَا فِي مُؤْتَمَرِ الصُّلْحِ تِلْكَ الْمُعَاهَدَاتِ النَّاطِقَةَ بِانْتِزَاعِ جَمِيعِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضِ الْبِلَادِ الَّتِي سَمَّوْهَا أَرْمَنِيَّةً وَيُونَانِيَّةً مِنْ سَلْطَنَتِهَا، وَجَعْلِ بَقِيَّةِ بِلَادِهَا وَهِيَ الْوِلَايَاتُ التُّرْكِيَّةُ مَعَ الْعَاصِمَةِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ الدُّوَلِ الْقَاهِرَةِ فِي مَالِيَّتِهَا وَإِدَارَتِهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>