للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ: " يَا فَاطِمَةُ قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِهِ وَقَوْلِي: (إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ خَاصَّةً فَأَهْلُ ذَلِكَ أَنْتُمْ أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: " بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ".

وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لِلنُّسُكِ يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَذَبْحِ النُّسُكِ كَالْأَمْرِ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (١٠٨: ٢) وَإِذَا فُسِّرَ النُّسُكُ بِالْعِبَادَةِ مُطْلَقًا يَكُونُ عَطْفُهُ عَلَى الصَّلَاةِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِأَنَّهَا مِنْهُ، وَإِلَّا كَانَ سَبَبُ الِاقْتِصَارِ عَلَى ذَكْرِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ هُوَ كَوْنَهَا أَعْظَمَ مَظَاهِرِ الْعِبَادَةِ الَّتِي فَشَا فِيهَا الشِّرْكُ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَرُوحُهَا الدُّعَاءُ وَالتَّعْظِيمُ، وَتُوَجُّهُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَعْبُودِ، وَالْخَوْفُ مِنْهُ وَالرَّجَاءُ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الشِّرْكُ مِمَّنْ يُغَالُونَ فِي تَعْظِيمِ الصَّالِحِينَ، وَمَا يُذَكِّرُ بِهِمْ كَقُبُورِهِمْ أَوْ صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ، وَأَمَّا الْحَجُّ وَالذَّبَائِحُ فَالشِّرْكُ فِيهِمَا أَظْهَرُ، وَقَلَّمَا يَقَعُ الشِّرْكُ فِي الصِّيَامِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ خَفِيٌّ، وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّصَارَى ابْتَدَعُوا صِيَامًا أَضَافُوهُ إِلَى بَعْضِ مُقَدَّسِيهِمْ كَصَوْمِ السَّيِّدَةِ، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اتَّبَعَهُمْ فِيهِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا صَدَقَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْوَارِدِ فِي اتِّبَاعِهِمْ سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ فَإِنَّهُ فِي الْكُلِّيَّاتِ دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ.

وَقَدْ كَانَتِ الذَّبَائِحُ عِنْدَ الْوَثَنِيِّينَ مِنَ الْعِبَادَاتِ يُقَرِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ وَيُهِلُّونَ بِهَا لَهُمْ، ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَخَرَجُوا بِقَرَابِينِهِمْ عَمَّا شُرِعَتْ لَهُمْ مِنْ كَفَّارَةٍ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، فَصَارُوا يُهِلُّونَ بِهَا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُنْذِرُونَهَا لِأُولَئِكَ الْقِدِّيسِينَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ عِبَادَةِ الشِّرْكِ، فَمَنْ فَعَلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ حُكْمُ مَنْ فَعَلَهَا مِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ " الْآيَةِ: ١٤٥ " وَسُورَتَيِ الْبَقَرَةِ " الْآيَةِ: ١٧٣ " وَالْمَائِدَةِ " الْآيَةِ: ٣ ". وَمَا تَأْوِيلُ بَعْضِ الْمُعَمَّمِينَ لَهُمْ إِلَّا كَتَأْوِيلِ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ.

وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا

وَالْعِبَادَاتُ إِنَّمَا تَمْتَازُ عَلَى الْعَادَاتِ بِالتَّوَجُّهِ فِيهَا إِلَى الْمَعْبُودِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَتَعْظِيمًا لَهُ وَطَلَبًا لِمَثُوبَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَكُلُّ مَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْمُصَلِّي أَوِ الذَّابِحُ بِذَلِكَ وَيَقْصِدُ بِهِ تَعْظِيمَهُ فَهُوَ مَعْبُودٌ لَهُ، سَوَاءٌ عَبَّرَ فَاعِلُهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَالْعِبَادَةُ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعِبَادِ وَخَالِقِهِمْ، فَإِنْ تَوَجَّهَ أَحَدٌ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُكَرَمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّا يُسْتَعْظَمُ خَلْقُهُ كَانَ مُشْرِكًا، وَاللهُ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.

إِنَّ كَوْنَ الصَّلَاةِ وَالنُّسُكِ لَا يَكُونَانِ فِي الدِّينِ الْحَقِّ إِلَّا خَالِصَيْنِ لِلَّهِ وَحْدَهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ يُعَدُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>