للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَدْ تَرَكُوا هِدَايَتَهُ، وَفُتِنُوا بِزِينَةِ أَهْلِ الْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَقُوَّتِهِمْ. وَلَمْ يُجَارُوهُمْ فِي فُنُونِهِمْ وَصِنَاعَاتِهِمْ، فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وَلَوِ اعْتَصَمُوا بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ، وَعَادُوا إِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ لَنَالُوا سِيَادَةَ الدُّنْيَا وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ قَدْ أَيْقَظَهُمْ مِنْ رُقَادِهِمْ، وَهَدَاهُمْ إِلَى السَّيْرِ عَلَى سُنَنِ أَجْدَادِهِمْ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ.

(لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ فَيَسْتَحِقَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِكَةٌ مَا فِي عِبَادَتِهِ، بِأَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ مَعَهُ لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ فِي إِرَادَتِهِ، أَوْ تُذْبَحَ لَهُ النِّسَائِكُ لِأَجْلِ شَفَاعَتِهِ عِنْدَهُ (مَنْ ذَا

الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢: ٢٥٥) (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢١: ٢٨) وَبِذَلِكَ التَّجْرِيدِ فِي الْتَوْحِيدِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، أَمَرَنِي رَبِّي، وَلَا يُعْبَدُ الرَّبُّ إِلَّا بِمَا أَمَرَ، دُونَ أَهْوَاءِ الْأَنْفُسِ وَنَظَرِيَّاتِ الْعُقُولِ وَتَقَالِيدِ الْبَشَرِ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَةِ وَالرُّتْبَةِ، وَأَوَّلُهُمْ فِي الزَّمَنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ - وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الْمُذْعِنِينَ لِأَمْرِ رَبِّهِ وَنَهْيِهِ، بِحَسَبَ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى الَّتِي فَضَّلَهُ بِهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ، كَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ لَقَّنَهُ رَبُّهُ الْإِسْلَامَ، فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الشَّامِلَةِ دَعْوَتُهَا لِجَمِيعِ الْأَنَامِ، وَالْمَوْصُوفَةِ بَعْدَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ بِأَنَّهَا خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَقَدْ يَسْتَلْزِمُ عُمُومُ بَعْثَتِهِ وَخَيْرِيَّةُ أُمَّتِهِ أَوَّلِيَّتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوَّلِيَّتُهُ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ بُعِثُوا قَبْلَهُ أَيْضًا، فَيَكُونُ أَوَّلًا فِي كُلٍّ مِنْ مَزَايَاهُ الْخَاصَّةِ وَرِسَالَتِهِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلْأَوَّلِ مِمَّا فَتَحَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيَّ الْآنَ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ.

وَلَمَّا بَيَّنَ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ، انْتَقَلَ إِلَى بُرْهَانِهِ الْأَعْلَى وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، بِمَا أَمَرَهُ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَالْمَعْنَى: أَغَيْرَ اللهِ خَالِقِ الْخَلْقِ، وَسَيِّدِهِمْ وَمُرَبِّيهِمْ بِالْحَقِّ، أَطْلُبُ رَبًّا آخَرَ أُشْرِكُهُ فِي عِبَادَتِي لَهُ بِدُعَائِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، أَوْ ذَبْحِ النِّسَائِكِ أَوْ نَذْرِهَا لَهُ، لِيَنْفَعَنِي أَوْ يَمْنَعَ الضُّرَّ عَنِّي، أَوْ لِيُقَرِّبَنِي إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَشْفَعَ لِي عِنْدَهُ كَمَا تَفْعَلُونَ بِآلِهَتِكُمْ! وَالْحَالُ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا عُبِدَ وَمِمَّا لَمْ يُعْبَدْ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَخَوَاصَّ الْبَشَرِ كَالْمَسِيحِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ الْمُذَكِّرَةِ بِبَعْضِ الصَّالِحِينَ وَصَانِعِيهَا (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (٣٧: ٩٦) ، فَإِذَا كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقَ الْمُقَدِّرَ، وَهُوَ السَّيِّدَ الْمَالِكَ الْمُدَبِّرَ، وَهُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، وَفَضَّلَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ وَلَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَكَيْفَ أُسَفِّهُ نَفْسِي وَأَكْفُرُ رَبِّي بِجَعْلِ الْمَخْلُوقِ الْمَرْبُوبِ مِثْلِي رِبًّا لِي؟ ! وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِرَارًا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>