للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَعْدَ انْحِلَالِ مَادَّةِ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ الَّتِي ابْتَدَأَتِ الْعَمَلَ، وَحُلُولِ مَوَادٍّ أُخْرَى فِي مَحِلِّهَا تَتَمَرَّنُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَمَا يَفْعَلُهُ الشَّخْصُ فِي صِغَرِهِ، يَبْقَى أَثَرُهُ فِي قُوَاهُ فِي كِبَرِهِ، فَكَذَلِكَ الْأُمَمُ.

وَقَدْ أَوْرَدَ النَّهْيَ عَنْ سَفْكِ بَعْضِهِمْ دَمَ بَعْضٍ، وَإِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ بِعِبَارَةٍ تُؤَكِّدُ مَعْنَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَتُحْدِثُ فِي النَّفْسِ أَثَرًا شَرِيفًا يَبْعَثُهَا عَلَى الِامْتِثَالِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ قَلْبٌ يَشْعُرُ، وَوِجْدَانٌ يَتَأَثَّرُ، فَقَالَ: (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) فَجَعَلَ دَمَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ كَأَنَّهُ دَمُ الْآخَرِ عَيْنُهُ، حَتَّى إِذَا سَفَكَهُ كَانَ كَأَنَّهُ بَخَعَ نَفْسَهُ وَانْتَحَرَ بِيَدِهِ. وَقَالَ: (وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) عَلَى هَذَا النَّسَقِ. وَهَذَا التَّعْبِيرُ الْمُعْجِزُ بِبَلَاغَتِهِ خَاصٌّ بِالْقُرْآنِ. فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ لَا تَزَالُ مَحْفُوظَةً عِنْدَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ فِي الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يَجْرُوا عَلَيْهَا فِي الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ عَنْهَا عِنْدَهُمْ لَا تُطَاوِلُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الَّتِي تُدْهِشُ صَاحِبَ الذَّوْقِ السَّلِيمِ وَالْوِجْدَانِ الرَّقِيقِ، فَهَذَا إِرْشَادٌ حَكِيمٌ طَلَعَ مِنْ ثَنَايَا الْأَحْكَامِ يَهْدِي إِلَى أَسْرَارِهَا وَيُومِئُ إِلَى مَشْرِقِ أَنْوَارِهَا، مَنْ تَدَبَّرَهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قِوَامَ لِلْأُمَمِ إِلَّا بِالتَّحَقُّقِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْحِكَمُ، وَشُعُورِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا بِأَنَّ نَفْسَهُ نَفْسُ الْآخَرِينَ وَدَمَهُ دَمُهُمْ، لَا فَرْقَ فِي الِاحْتِرَامِ بَيْنَ الرُّوحِ الَّتِي تَجُولُ فِي بَدَنِهِ وَالدَّمِ الَّذِي يَجْرِي فِي عُرُوقِهِ، وَبَيْنَ الْأَرْوَاحِ وَالدِّمَاءِ الَّتِي يَحْيَا بِهَا إِخْوَانُهُ الَّذِينَ وُحِّدَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الشَّرِيعَةُ الْعَادِلَةُ وَالْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي الْآيَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهَا لَا تَرْتَكِبُوا مِنَ الْجَرَائِمِ مَا تُجَازَوْنَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ. وَيُقَالُ فِي قَوْلِهِ: (لَا تَسْفِكُونَ) كَمَا قِيلَ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) مِنْ تَضَمُّنِ صِيغَةِ الْخَبَرِ لِلتَّأْكِيدِ.

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) فِيهِ وَجْهَانِ:

(أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ بِمَا كَانَ مِنِ اعْتِرَافِ سَلَفِهِمْ بِالْمِيثَاقِ وَقَبُولِهِ، وَشُهُودِهِمُ الْوَحْيَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

(ثَانِيهُمَا) : أَنَّ الْمُرَادَ الْحَاضِرُونَ أَنْفُسُهُمْ، أَيْ أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِالْقُرْآنِ قَدْ أَقْرَرْتُمْ بِهَذَا الْمِيثَاقِ وَتَعْتَقِدُونَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَلَا تُنْكِرُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، بَلْ تَشْهَدُونَ بِهِ وَتُعْلِنُونَهُ، فَالْحُجَّةُ نَاهِضَةٌ عَلَيْكُمْ بِهِ.

ثُمَّ بَعْدَ بَيَانِ هَذَا الْمِيثَاقِ وَتَسْجِيلِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ لَا يُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا، ذَكَرَ نَقْضَهُمْ إِيَّاهُ فَقَالَ: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ) الْحَاضِرُونَ الشَّاهِدُونَ الْمُشَاهِدُونَ (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أَيْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَنْ قَبْلَكُمْ، مَعَ اعْتِرَافِكُمْ

بِأَنَّ الْمِيثَاقَ مَأْخُوذٌ عَلَيْكُمْ كَمَا كَانَ مَأْخُوذًا عَلَيْهِمْ؛ كَانَ (بَنُو قَيْنُقَاعَ) مِنَ الْيَهُودِ أَعْدَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ إِخْوَانِهِمْ فِي الدِّينِ، وَكَانَ الْأَوَّلُونَ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ، وَالْآخَرُونَ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا فَبَقِيَ بَنُو النَّضِيرِ مَعَ الْخَزْرَجِ، وَخَالَفَ بَنُو قُرَيْظَةَ الْأَوْسَ، وَكَانَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَعْدَاءً، وَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ، وَمَعَ كُلٍّ حُلَفَاؤُهُ، فَهَذَا مَا احْتَجَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِهِمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>