للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَا نَاصِرَ لَهُمْ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ بِحَمِيَّةِ نَسَبٍ وَلَا وَلَاءٍ وَكَانَ الْمُضْطَهَدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَجْهَلُونَ حِكْمَةَ اللهِ بِظُهُورِ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ اللهُ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ يَمْتَازُ بِهَا الصَّادِقُونَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، وَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الصَّابِرِينَ. فَكَانَتِ السُّورَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُفْتَتَحَ بِالْحُرُوفِ الْمُنَبِّهَةِ لِمَا بَعْدَهَا. وَالْأَمْرُ الثَّانِي الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ سُورَةُ الرُّومِ هُوَ الْإِنْبَاءُ بِأَمْرٍ وَقَعَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا يَكُنْ وَصَلَ خَبَرُهُ إِلَى قَوْمِهِ - وَبِمَا سَيَعْقُبُهُ مِمَّا هُوَ فِي ضَمِيرِ الْغَيْبِ ذَلِكَ أَنَّ دَوْلَةَ فَارِسَ غَلَبَتْ دَوْلَةَ الرُّومِ فِي الْقِتَالِ الَّذِي كَانَ قَدْ طَالَ أَمْرُهُ بَيْنَهُمَا فَأَخْبَرَ اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّ الْأَمْرَ سَيَدُولُ وَتَغْلِبُ الرُّومُ الْفُرْسَ فِي مَدَى بِضْعِ

سِنِينَ. وَبِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْصُرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَدَقَ الْخَبَرُ وَتَمَّ الْوَعْدُ فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُعْجِزَةً مَنْ أَظْهَرِ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلَوْ فَاتَ مَنْ تَلَاهَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةٌ مِنْ أَوَّلِهَا لَمَا فَهِمُوا مِمَّا بَعْدَهَا شَيْئًا فَكَانَتْ جَدِيرَةً بِأَنْ تُبْدَأَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُسْتَرْعِيَةِ لِلْأَسْمَاعِ الْمُنَبِّهَةِ لِلْأَذْهَانِ. وَكَانَ هَذَا بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ بَعْضَ الِانْتِشَارِ، وَتَصَدِّي رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ لِمَنْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدَّعْوَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَكَانَ السُّفَهَاءُ يَلْغَطُونَ إِذَا قَرَأَ وَيَصْخُبُونَ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤١: ٢٦) .

وَأَمَّا سُورَةُ " ن " فَفَاتِحَتُهَا وَخَاتِمَتُهَا فِي بَيَانِ تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفْعِ شُبْهَةِ الْجُنُونِ عَنْهُ، وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٩٦: ١) وَكَانَتْ شُبْهَةُ رَمْيِهِ - حَمَاهُ اللهُ وَكَرَّمَهُ - بِتُهْمَةِ الْجُنُونِ مِمَّا يَتَبَادَرُ إِلَى الْأَذْهَانِ مِنْ غَيْرِ عَدَاوَةٍ وَلَا مُكَابَرَةٍ، فَإِنَّ رَجُلًا أُمِّيًّا فَقِيرًا وَادِعًا سَلِمًا، لَيْسَ بِرَئِيسِ قَوْمٍ وَلَا قَائِدِ جُنْدٍ، وَلَا ذِي تَأْثِيرٍ فِي الشَّعْبِ بِخِطَابِةٍ وَلَا شِعْرٍ، يَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ عَلَى ضَلَالِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، وَأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ هَؤُلَاءِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ دِينَهُ سَيَهْدِي الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ، وَإِصْلَاحَ شَرْعِهِ سَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَمِ، لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْ مَدَارِكِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْأُمِّيِّينَ الْجَاهِلِينَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ وَآيَاتِهِ فِي تَأْيِيدِ الْمُرْسَلِينَ، أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ مَا يَصِفُونَ بِهِ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّعْوَى قَبْلَ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَالْعُلُومِ بِقَوْلِهِمْ: " إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ " وَبَعْدَ ظُهُورِهَا بِقَوْلِهِمْ: " سَاحِرٌ أَوْ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ " وَبَعْدَ ظُهُورِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ: بِقَوْلِهِمْ: " مُعَلَّمٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>