للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَوْلُ ابْنِ رَوْقٍ وَقُطْرُبٍ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤١: ٢٦) وَتَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى - لِمَا أَحَبَّ مِنْ صَلَاحِهِمْ وَنَفْعِهِمْ - أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَعْرِفُونَهُ لِيَكُونَ سَبَبًا لِإِسْكَاتِهِمْ وَاسْتِمَاعِهِمْ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُرُوفَ فَكَانُوا إِذَا سَمِعُوهَا قَالُوا كَالْمُتَعَجِّبِينَ: اسْمَعُوا إِلَى مَا يَجِيءُ بِهِ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِذَا أَصْغَوْا هَجَمَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ، وَطَرِيقًا إِلَى انْتِفَاعِهِمُ اهـ. ثُمَّ سُمِّيَ هَذَا حِكْمَةً فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَهُوَ كَمَا قُلْنَا، ثُمَّ عَلِمْتُ أَنَّ لِلشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ تَفْسِيرًا مُخْتَصَرًا - عَلَى طَرِيقَةِ الْمُفَسِّرِينَ لَا الصُّوفِيَّةِ - اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

وَفِي شَرْحِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَنْبِيهَاتٌ مَا نَصُّهُ " قَالَ الْحَرْبِيُّ: الْقَوْلُ بِأَنَّهَا تَنْبِيهَاتٌ جَيِّدٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ عَزِيزٌ وَفَوَائِدُهُ عَزِيزَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ عَلَى سَمْعٍ مُنْتَبِهٍ، فَكَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُلِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَالَمِ الْبَشَرِ مَشْغُولًا فَأُمِرَ جِبْرِيلُ بِأَنْ يَقُولَ عِنْدَ نُزُولِهِ: الم، وَحم لِيَسْمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ جِبْرِيلَ فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيَصْغَى إِلَيْهِ (قَالَ) وَإِنَّمَا

لَمْ تُسْتَعْمَلِ الْكَلِمَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي التَّنْبِيهِ كَـ " أَلَا " وَ " أَمَّا " لِأَنَّهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَعَارَفَهَا النَّاسُ فِي كَلَامِهِمْ، وَالْقُرْآنُ كَلَامٌ لَا يُشْبِهُ الْكَلَامَ فَنَاسَبَ أَنْ يُؤْتَى فِيهِ بِأَلْفَاظِ تَنْبِيهٍ لَمْ تُعْهَدْ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي قَرْعِ سَمْعِهِ اهـ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ لَغَوْا فِيهِ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذَا النَّظْمَ الْبَدِيعَ لِيَعْجَبُوا مِنْهُ وَيَكُونَ تَعَجُّبُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ لَهُ، وَاسْتِمَاعُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِ مَا بَعْدَهُ فَتَرِقُّ الْقُلُوبُ وَتَلِينُ الْأَفْئِدَةُ اهـ.

وَأَقُولُ: إِنَّ جَعْلَ التَّنْبِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَبْعَدٌ، وَقَدْ كَانَ يَتَنَبَّهُ وَتَغْلِبُ الرُّوحَانِيَّةُ عَلَى طَبْعِهِ الشَّرِيفِ بِمُجَرَّدِ نُزُولِ الرُّوحِ الْأَمِينِ عَلَيْهِ وَدُنُوِّهِ مِنْهُ كَمَايُعْلَمُ مِمَّا وَرَدَ فِي نُزُولِ الْوَحْيِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ وَجْهُ تَخْصِيصِ بَعْضِ السُّوَرِ بِالتَّنْبِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّنْبِيهُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ، ثُمَّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا؛ إِذْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَتَوَجَّهُونَ بِكُلِّ قُوَاهُمْ إِلَى مَا يَتْلُوهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَكُلُّهُ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ، فَهُمْ مَقْصُودُونَ بِهَذَا التَّنْبِيهِ بِالدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ.

وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا اسْتَقْصَيْنَاهُ مِنَ التَّتَبُّعِ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هَذِهِ الْحِكْمَةَ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا بَيَّنَّاهَا بِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>